f احتياطات الغاز الطبيعي الجديدة والأهمية الجيوسياسية للبحر الأسود | الاستراتيجية | SETA احتياطات الغاز الطبيعي الجديدة والأهمية الجيوسياسية للبحر الأسود – SETA

احتياطات الغاز الطبيعي الجديدة والأهمية الجيوسياسية للبحر الأسود

إن قوة تركيا تتطلب نمطاً شائكاً من العلاقات، ليس مع التحالف الغربي فحسب، بل ومع روسيا أيضاً في نفس الوقت. والبحر الأسود مرشح لأن يكون مجالاً جيوسياسياً تُختبر فيه كل تلك الأمور.

من المُقرر أن يعلن الرئيس أردوغان اليوم عن حجم الاحتياطات الجديدة المُكتشفة في البحر الأسود. فهنيئاً للشعب التركي!

لا يتعلق هذا الخبر الذي يُظهر أن التحركات التركية في مجال الطاقة قد عبرت إلى مرحلة جديدة بالاقتصاد فحسب، ذلك أن البحر الأسود مرشح لأن يكون ساحة للتوترات الجيوسياسية الجديدة، في ظل مواصلة تنافس القوى في البحر الأسود مساره غير المستقر.

أثناء كتابة هذه السطور، يدور الحديث على الطرف الشرقي من البحر الأسود (في القوقاز)، حول الصواريخ التي أطلقتها يريفان على إقليم نخجوان الأذربيجاني. حيث لم يستمر وقف إطلاق النار الذي جرى إعلانه بعد أن ألقت موسكو بثقلها السياسي لجمع طرفي النزاع طويلاً. ومن الواضح أن هذا النزاع لن يتم وقفه بهذه السهولة؛ فالصواريخ الباليستية التي تبقت من الحقبة السوفيتية لدى أرمينيا، إضافة إلى المقاتلين الأجانب (بما فيهم مقاتلي تنظيم بي كا كا) الذين جلبتهم أرمينيا إلى قرة باغ، والأسلحة الثقيلة التي تمنحها أو تهدد موسكو بمنحها ليريفان هي كلها أمور تبعث على القلق بالنسبة للمسار المستقبلي للنزاع.

أما عن الاعتداءات التي نُفذت على خطوط الطاقة ونخجوان؛ فهي بمثابة استفزاز صريح جلبه المأزق الذي تعيشه أرمينيا.

كانت منطقتي البحر الأسود والقوقاز قد تحولتا إلى بؤرة الصراع بين الغرب وروسيا، عقب إعلان أوكرانيا وجورجيا انضمامهما إلى حلف الناتو عام 2008. وقد كان الرد العسكري الروسي على توسع حلف الناتو هو تقسيم أوكرانيا وجورجيا. ليبلغ التوتر ذروته مع الضم الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014. وبالرغم من محاولة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في عهد أوباما إرجاع روسيا خطوات إلى الخلف، إلا أن تلك المحاولات لم تكلل بالنجاح. أما في عهد إدارة ترامب؛ فقد وسع الزعيم الروسي بوتين مجالات نفوذه، لتضم شرق المتوسط وشمال أفريقيا والخليج. ويُظهر قيام روسيا بمناورات مشتركة مع مصر في البحر الأسود التشابك المتصاعد تدريجياً لصراع القوى في تلك المناطق.

مما لا شك فيه أن البحر الأسود يستحوذ على أهمية حساسة في التقييمات الاستراتيجية لموسكو. والأمر نفسه ينطبق على مسألة السيطرة على شرق أوروبا (بلغاريا ورومانيا ومولدوفا) وأوكرانيا والقوقاز. حيث تولي موسكو أهمية كبرى للبحر الأسود، لأهميته من حيث الدفاع عن البلاد، والقدرات العسكرية، وتنافس القوى الإقليمية بدءاً من شرق المتوسط إلى الشرق الأوسط.

بالمثل، يعتبر البحر الأسود على أهمية كبرى بالنسبة للتحالف الغربي بحيث لا يمكن تركه لروسيا. وكما أكدت مؤسسة الفكر الأمريكية “راند” في تقرير لها بعنوان “روسيا والناتو وأمن البحر الأسود”؛ سيحدد الصراع بين الغرب وروسيا مستقبل أوروبا.

لا يتوقع الخبراء الاستراتيجيون الذين يعملون على إعادة تعريف الولايات المتحدة الأمريكية لدورها العالمي من جديد أن تهمل واشنطن أوروبا، حتى وإن نفذت انسحاباً جزئياً. فحتى ترامب يمارس ضغوطاً على ألمانيا، بسبب اعتماديتها على روسيا في مجال الطاقة. ومن المتوقع أن تكون الصين هي أولوية ترامب، وأن يتبع مع روسيا سياسة مشابهة لسياسته الحالية إذا أُعيد انتخابه من جديد. في هذه الحالة ستتمكن موسكو من الحفاظ على التوازن الحالي في تحركاتها في البحر الأسود. إلا أن التحركات الدائرة في بيلاروسيا وقرة باغ وقيرغيزيا تظهر أن الحفاظ على الوضع القائم ليس سهلاً مطلقاً.

أما إذا تم انتخاب المرشح الديموقراطي بايدن رئيساً، فمن المتوقع أن يضع مسألة تقييد روسيا في مركز أولويات السياسة الخارجية لواشنطن. حيث يتعين على بايدن أن يخفف الضغط الروسي على أوروبا، عبر محاولة تقوية التحالف العابر للأطلسي. وهو ما يعني إيقاف توسع النفوذ الروسي.

ستحتدم الصراعات الجيوسياسية من حولنا، أياً كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الثالث من نوفمبر المقبل. ليست العلاقات التركية الأمريكية فحسب التي ستنتقل إلى عهد جديد، وفقاً لهوية الفائز في الانتخابات، ففي الوقت نفسه ستسلك العلاقات الروسية التركية في مثلث التنافس-التعاون-التوتر مساراً جديداً وفقاً لذلك. ولكن انتقال ذلك المسار إلى ما هو أبعد من “الشراكة” التي أشار إليها وزير الخارجية الروسي لافروف هو أمر عسير. فليبيا وشرق المتوسط وسوريا والبحر الأسود والقوقاز كلها تعتبر ساحات تنافس بين البلدين. برأيي، ليبيا وقرة باغ هما ساحتي أزمة أزعجت فيهما تحركات أنقرة موسكو.

إن قوة تركيا تتطلب نمطاً شائكاً من العلاقات، ليس مع التحالف الغربي فحسب، بل ومع روسيا أيضاً في نفس الوقت. والبحر الأسود مرشح لأن يكون مجالاً جيوسياسياً تُختبر فيه كل تلك الأمور.

تسميات