ما هدف فرنسا؟

لقد كان تصريح الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران في اللقاء الذي أجراه عام 1998 مع صحيفة Le Figaro بأن "وقوع إبادة جماعية في تلك البلدان ليس بهذا القدر من الأهمية" تجلياً لوحشية وبربرية المصالح القومية الفرنسية..

اجتمع قادة دول جنوب الاتحاد الأوروبي في جزيرة كورسيكا بمبادرة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبعثوا رسالة تضامن مع قبرص الرومية واليونان ضد أعمال التنقيب التركية عن الغاز الطبيعي شرقي المتوسط. وبالرغم من تعبير ماكرون عن رأيه الذي مفاده أن تركيا لم تعد حليف في منطقة البحر المتوسط بأسلوب اتهامي قبل الاجتماع، لكن من الواضح أن البيان الختامي قد استخدمت فيه لغة أكثر رزانة ودبلوماسية، نتيجة مبادرة من بعض الدول المشاركة في الاجتماع (مالطا، إيطاليا، إسبانيا).

كما دعا ماكرون تركيا إلى الحوار مجدداً مؤكداً رغبته في “إعادة العلاقات مع تركيا إلى سابق عهدها، للحفاظ على الاستقرار بالمنطقة”. في الوقت نفسه، لم يتوان ماكرون عن مواصلة تهديداته، مذكراً بأن قرار فرض العقوبات على تركيا ستتم مباحثته، ومسلطاً الضوء على القمة التي سيعقدها رؤساء ورؤساء حكومات دول الاتحاد الأوروبي بين الرابع والعشرين والخامس والعشرين من سبتمبر/ أيلول الجاري.

هذا ويُنتظر بقوة أن يتخذ الاتحاد الأوروبي قرار توقيع العقوبات المحتمل على تركيا في الرابع والعشرين من أيلول الجاري، لأن تركيا تبدي موقفاً حازماً إزاء مسألة عدم التراجع خطوة إلى الخلف. ولكن من الواضح أن دول مثل ألمانيا والمجر ومالطا تميل إلى عرقلة الدفع بعقوبات قاسية. وبناءً عليه؛ لن يكون مفاجئاً أن يخرج قرار العقوبات ضد أفراد وكيانات، بدلاً من العقوبات التي قد تخلف دماراً هائلاً يستهدف الاقتصاد التركي.

إننا لا نرصد النهج الفرنسي العدواني تجاه تركيا في استخدام فرنسا اليونان كأداة ضد تركيا في أزمة شرق المتوسط فقط، ففرنسا -إن جاز التعبير- نذرت نفسها للوقوف ضد تركيا في كل المجالات، بطمع مرضي. ونشهد باستمرار على تحديات ونهج عدواني فرنسي تجاه تركيا في منطقة البحر المتوسط وأفريقيا والشرق الأوسط، وعلى مستوى منظمات مثل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

أما سبب استهداف فرنسا لتركيا؛ فينبع من رؤيتها لنفسها في موضع لاعب جيواستراتيجي عزيز الجانب على الساحة العالمية “قوة عظمى”. حيث تسعى فرنسا لانتهاز صراع القوى القائم بين روسيا والصين من ناحية والغرب من ناحية، عبر ملء الفراغ الناشئ في النظام الدولي خلال مرحلة إنشاء نظام عالمي جديد، ب”فرنسا الكبرى” التي تريد إقامتها.

في هذا السياق؛ تعمل فرنسا على زيادة تواجدها في مثلث البحر المتوسط-أفريقيا- الشرق الأوسط الجيواستراتيجي، الذي كان يمثل مجال النفوذ التقليدي بالنسبة لها في الماضي، من خلال تحركات عسكرية وسياسية فعالة.

بهذا الشكل؛ من أجل الوصول إلى هدفها هذا؛ تؤمن الحكومة الفرنسية أن حملة إعادة إحياء الاقتصاد الفرنسي من جديد، تمر من الهيمنة على البحار. إذ يؤكد الساسة الفرنسيون على الدوام أن فرنسا هي ثاني أكبر قوة محيطية في العالم.

إلا أن تركيا تقف كلاعب منافس بمثابة حجر عثرة على الأرض، في سبيل تحقيق فرنسا أهدافها، المتمثلة في إعادة إنشاء نفوذها في الشمال الأفريقي والشرق الأوسط، عبر فرض السيادة على البحر المتوسط. لذا؛ يعطي احتدام التوتر مع فرنسا شرقي المتوسط إشارات بأن التنافس القديم بين البلدين في قارة أفريقيا سيحدث على مستوى تنازعي أكثر.

لم تغادر فرنسا القارة الأفريقية بالتوازي مع انهيار امبراطوريتها الاستعمارية التقليدية هناك. بل واصلت مع عملاءها المحليين هيمنتها الفرانكفونية على أفريقيا، عبر وسائل الاستعمار الحديث (الوسائل العسكرية والتبعية الاقتصادية، والنخب الفرانكفونية)، لتستخدمها كحديقة خلفية نوعية.

من بين الدول التي استعمرت أفريقيا، كانت فرنسا هي الأكثر تعسفاً وبربريةً. حيث قامت بتنفيذ ما لا يحصى من التدخلات العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية في مستعمراتها القديمة، وارتكبت العديد من الجرائم ضد الإنسانية، عبر دفع عملاءها المحليين لارتكاب إبادات عرقية جماعية. كان المثال الأبرز على ذلك هو قيام فرنسا بتسليح قبيلة الهوتو في رواندا عام 1994، والتحريض على إبادة  800 ألف إنسان من أقلية التوتسي. وكان تصريح الرئيس الرواندي باول كاغامي بأنهم “قاموا بإثبات الدور الفرنسي القاطع في الإبادة الرواندية” قد تسبب في أزمة سياسية بين البلدين. وإلى الآن لاتزال هناك قضايا دولية تُنظر ضد فرنسا حول الإبادة العرقية الرواندية.

لقد كان تصريح الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران في اللقاء الذي أجراه عام 1998 مع صحيفة Le Figaro بأن وقوع إبادة جماعية في تلك البلدان ليس بهذا القدر من الأهمية” تجلياً لوحشية وبربرية المصالح القومية الفرنسية.

بالتوازي مع الانفتاح على أفريقيا في عهد حكومات حزب العدالة والتنمية؛ فتحت تركيا القلوب في أفريقيا، خصوصاً المناطق الفرانكفونية، بسياساتها المبادِرة الإنسانية التنموية. كما وقعت معاهدات ثنائية عسكرية وأمنية، تستند إلى الثقة المتبادلة، في سياق أمن المنطقة. وأثمرت تلك الجهود عن إنشاء قواعد عسكرية.

ينسجم موقف تركيا في القارة الإفريقية مع ميراثها التاريخي، إذ لم يميز أجدادنا بين البشر في الأراضي التي فتحوها على أساس العرق أو اللغة أو المعتقد.

موقف تركيا المرن الصارم في نفس الوقت في أفريقيا تعتبره فرنسا منافساً في طريقه للتحول إلى تهديد بالنسبة لها. لذا؛ فإن الموجهات والتحديات السياسية الأساسية بين فرنسا وتركيا ستجري في قارة أفريقيا. وبناءً عليه؛ فإن اشتمال زيارات وزير الخارجية التركي إلى أفريقيا الدول الفرانكفونية ليس من قبيل الصدفة.

 

تسميات