f كان باريس الشرق الأوسط، غرق في فوضى الحرب الأهلية، واهتز بالاغتيالات، وانهار مع التفجير الأخير! ها هي قصة لبنان التي لم تُروى.. | مقالات رأي | SETA كان باريس الشرق الأوسط، غرق في فوضى الحرب الأهلية، واهتز بالاغتيالات، وانهار مع التفجير الأخير! ها هي قصة لبنان التي لم تُروى.. – SETA

كان باريس الشرق الأوسط، غرق في فوضى الحرب الأهلية، واهتز بالاغتيالات، وانهار مع التفجير الأخير! ها هي قصة لبنان التي لم تُروى..

اهتزت العاصمة اللبنانية بيروت ليلة الثلاثاء على إثر انفجار ضخم. فالمستودع الذي خُزنّ به 2750 طن متفجرات حوّل نصف بيروت بانفجار مروع إلى كتلة من الحطام. بيروت التي عُرفت لزمن ب "باريس الشرق الأوسط"، وهدمت بالحرب الأهلية، واهتزت بالاغتيالات، لكنها قامت في كل مرة من بين الرماد، تلقت هذه المرة جرحاً غائراً...

المدينة التي تحتضن في بنيانها العديد من الأديان والمذاهب

-يعيش في لبنان العديد من الجماعات الدينية والمذهبية سوياً.. هلا حدثتمونا عن التركيبة الديموغرافية الموجودة هناك؟

تبدو التركيبة الديموغرافية للبنان وكأنها شرق أوسط مُصغر. ففيها جزء هام من الجماعات الإثنية والدينية والمذهبية الموجودة في المنطقة. فبالنظر للتوزيع الإثني؛ نجد أن 95% من سكان البلاد عرب، و4% منهم أرمن، و1% أخرون. وإذا نظرنا إلى التوزيع الديني؛ ف55% من السكان مسلمون، 39% مسيحيون، 5% دروز، وحوالي 1% من اليهود. فيما تشكّل الاختلاف السياسي في معناه العام على أساس طائفي. فهناك 30% شيعة، و21% موارنة، و30% سنّة. علاوة على ذلك؛ هناك 6% دروز وغيرهم.

ترسخت السياسة اللبنانية على البنيان الديني/ المذهبي. وفي سبيل ضمان تمثيل كافة الطوائف؛ تم تبني نظام المحاصصة، الذي تم تعيينه بالتوازي مع تعداد السكان الذي أُجريّ عام 1932بتأثير فرنسي مباشر، ثم جرى تعديله عدة مرات. يتوزع نواب البرلمان وموظفي الدولة وفقاً لعدد السكان على 18 طائفة إثنية ودينية، وإنْ برز الموارنة والمسلمون السنّة والشيعة بشكل أساسي. الأحزاب السياسية التي تم تأسيسها هي الأخرى ترسخت على هذه التباينات.

شكل هذا النظام أسس الفرقة في البلاد. ولما تباينت الأجندات والمصالح والالتزامات الدولية الخاصة بكل طائفة، لم تنشأ هوية وطنية مشتركة ولا دولة تعمل على المستوى المؤسسي.

كان باريس الشرق الأوسط

-كيف أضحى لبنان الذي عُرف في سبعينيات القرن الماضي ب “باريس الشرق الأوسط” مركزاً للحروب الأهلية في لحظة؟

في السبعينيات كانت لبنان مركز الاستثمار والسياحة في الشرق الأوسط. وفي عام 1975 سرت اشتباكات محدودة بدأت بين الفلسطينيين والكتائبيين في كافة أنحاء البلاد، واستغرقت 15 عاماً. خلال تلك المرحلة تدخلت سوريا وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في لبنان. وإن كانت الحرب الأهلية قد وضعت أوزارها عام 1990، إلا أن لبنان تحول مع الوقت إلى ساحة نزاع بين تلك القوى. فحتى اغتيال رفيق الحريري كان جزءاً من تلك التجاذبات. وبناء على ذلك؛ أجبرت الولايات المتحدة الأمريكية سوريا على الخروج من لبنان عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وغزو العراق، ونجحت في ذلك. أما وجود حزب الله الذي أُسس بمبادرة إيرانية؛ فقد عُدّ تهديداً من قبل إسرائيل. وتعد حرب إسرائيل على لبنان عام 2006 مؤشراً هاماً بهذا المعنى.

الحرب الأهلية استمرت 15 سنة كاملة

-لطالما عُرف لبنان بالحرب الأهلية التي وضعت أوزارها عام 1990.. فهل تمكن لبنان من تضميد جراحه؟

استغرقت الحرب الأهلية 15 عاماً، وعمّقت الفرقة بين الطوائف. نُزع سلاح الطوائف مع اتفاق الطائف. وبدأت مرحلة من الاستقرار والتطور الاقتصادي تحت قيادة رفيق الحريري. أُعيد إعمار البنية التحتية والفوقية للبلاد. وبالرغم من كونه مواطناً سعودياً إلا أنّ الحريري وضع مصالح لبنان ووحدته في مركز أولوياته طوال فترة حكمه. باختصار؛ ضُمدت جراح لبنان جزئياً. إلا أنّ الفرقة المذهبية والإثنية تواصلت. فقد طرق غزو العراق عام 2003 واغتيال الحريري عام 2005 أبواب عدم الاستقرار بالنسبة للبنان. وفي عام 2006 كذلك احتلت إسرائيل البلاد متعللة بخطر حزب الله. ولكن حزب الله خرج من تلك الفترة أقوى، ورفع أيضاً من عدد الأصوات التي حصل عليها من الانتخابات التي تلت هذا التاريخ، وأضحى في موضع حساس من شأنه أن يعطل البرلمان و-بطبيعة الحال- انتخابات رئاسة الجمهورية.

نفوذ السعودية وإيران دمر الاقتصاد اللبناني

-كان الاقتصاد اللبناني قد أعلن عن إفلاسه في شهر مارس الماضي.. فلماذا تعاني تلك البلاد من أزمة اقتصادية؟

يتميز الاقتصاد اللبناني باستناده على السوق الحر، وانفتاحه على الاستثمارات الدولية، واعتماديته على الخارج. وتتوفر لديه قوى عاملة مؤهلة. ويشكل قطاعي الخدمات والسياحة العمود الفقري لاقتصاد البلاد. القطاع المصرفي وقطاع الترفيه كذلك هامان جزئياً. تحركات النهوض والاستثمار التي بدأت عقب الحرب الأهلية أظهرت تأثيرها الإيجابي حتى عام 2005. ولكن ما لبثت أن أصبحت أكثر اعتمادية على الخارج، ووقعت تحت تأثير السعودية.

لقد اكتسب انعدام العدالة في توزيع الدخل والرشوة والفساد والضرائب الباهظة ومشاكل حقوق الملكية بعداً هيكلياً، وشكلت عوائق أمام بناء نظام اقتصادي صلب. هذا وتؤثر تلك المشاكل الهيكلية بالسلب على عمل السوق في يومنا هذا، وتقلل من الثقة بها. ولدت تلك الصورة مشاكل يجب حلها بصورة عاجلة مثل الفارق الشاسع بين سعر الصرف الأجنبي في البنوك والسوق السوداء، وعدم توفر النقد الأجنبي بكميات كبيرة، وعدم التمكن من الاستفادة من الأموال الضخمة الموجودة في البنوك.

نمت الاحتجاجات التي بدأت بالتوازي مع فرض ضريبة على تطبيق “واتس آب” وجرت البلاد إلى عتبة الإفلاس. ولقطع السعودية قنوات مساعداتها واستثماراتها الرئيسية دور كبير في ذلك. كان مبرر السعودية في ذلك هو اشتداد ساعد إيران في لبنان من خلال حزب الله. تُظهر هذه الصورة أن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية يمكن أن تتوحد مع المشاكل الدولية بكل سهولة، وتؤثر على البلاد في ظرف فترة قصيرة.

تركيا ولبنان تقاربا في عهد الحريري

-يلفت حب تركيا في لبنان الانتباه من الماضي وحتى الآن.. فهل لذلك سبب معين؟

عاشت العلاقات التركية اللبنانية توتراً لفترة، من جراء استخدام تنظيم بي كا كا وتنظيم الجيش الأرمني السري لتحرير أرمينيا (ASALA) لأراضي لبنان والحدود السورية اللبنانية. ولكن التقارب الذي بدأ باتخاذ تركيا موقفاً معارضاً لسياسات إسرائيل الاحتلالية وزيارة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري لتركيا أصبح بدايةً لعهد جديد في العلاقات التركيا اللبنانية.

أما السبب الرئيسي وراء حب الشعب اللبناني لتركيا؛ فهو المساعدات التي تقدمها تركيا للبنان دون أن تكون طرفاً في الصراع السياسي في البلاد. فكل الدول التي تقدم مساعدات للبنان (إيران، السعودية، فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية، إلخ..) تتدخل في سياسة البلاد من خلال إحدى الطوائف. إلا أن تركيا تتصرف على نحو حساس في هذه القضية. وتلقى مقابلاً لذلك بطبيعة الحال.

إذ تقدم تركيا المساعدات للبلاد من المساعدات الغذائية إلى الدعم المقدم للاجئين، ومن تشييد المشافي والمدارس إلى التعمير، وذلك عبر منظمة TIKA والمؤسسات الأخرى، دون ممارسة أي تحزب. علاوة على ذلك؛ تُقابل المبادرة التي أخذتها تركيا على عاتقها في مسألة حل المشاكل الإقليمية بشكل إيجابي، نظراً لأن مشاكل الصراعات الإقليمية تنتقل إلى لبنان بسهولة. أتى إعلان المساعدات الأول من تركيا على إثر تفجير الميناء، وعلى الفور تم تقديم مواد الإغاثة الإنسانية والطبية بتعليمات من الرئيس أردوغان. وأرسلت هيئة الإغاثة والكوارث والهلال الأحمر التركي فرق البحث والإنقاذ. وسيُطرح موضوع المساعدات الغذائية وإقامة المشفى الميداني على جدول الأعمال في الأيام المقبلة.

نفوذ السعودية وإيران يدمر لبنان

-ما الدول التي تقوم بالتدخل في شؤون لبنان؟

تبرز إسرائيل وإيران والسعودية في هذا الموضوع. فقد تدخلت إسرائيل بشكل مباشر أعوام 1982 و2006. وبسبب وجود حزب الله فهي تبقِي على التدخل المستمر على جدول الأعمال بصورة متواصلة. إيران كذلك تمتلك نفوذ بالغ من خلال حزب الله. أما السعودية المنزعجة من ذلك؛ فتبقِي البلاد تحت نفوذها من الناحية الاقتصادية. وقد قرب هذا الحال بين إسرائيل والسعودية. ومنذ عدة أعوام ومسألة التدخل العسكري المشترك بين هاتين الدولتين ضد وجود حزب الله في لبنان تُطرح على جدول الأعمال بين الفينة والأخرى.

سوريا أيضاً كان لها وجود عسكري بالغ الأهمية منذ عام 1976 حتى عام 2006. ولكن سوريا قامت بسحب قواتها تلك عبر الصفقة التي عُقدت عقب اغتيال الحريري.

اهتمام فرنسا المتبقي من عهد الانتداب لم ينتهي هو الآخر. أما الولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد تدخلت بلبنان في أعوام الحرب الأهلية، إذ أضحت لبنان ثابتاً هاماً في مسألة أمن إسرائيل.

 

-كان رئيس الوزراء سعد الحريري قد اختفى أثناء جولته في السعودية عام 2017، ثم قدم استقالته عقب ذلك.. هل يمكن أن يُكشف الستار عن خبايا تلك الحادثة؟

بالطبع لم يتم تقديم أية بيانات مطمئنة إلى الرأي العام. إلا أنّ تلك الحادثة كانت امتداداً للصراع السعودي الإيراني.

لماذا خُزنت تلك المتفجرات؟

-لماذا تم الاحتفاظ ب 2750 طن من نترات الأمونيوم طيلة ستة أعوام بمرفأ بيروت؟

لم يتم الإفصاح حتى الآن عن المكان الذي أتت منه هذه الكمية من نترات الأمونيوم. وكما هو معلوم؛ فإن الاستخدام الشائع لنترات الأمونيوم في العالم لأغراض إنتاج الأسمدة. ويرى الخبراء أنّ التخلص من نترات الأمونيوم أمر عسير، ما لم تُستخدم لهذا الغرض.

حادث أم عملية تخريبية؟

-اهتز لبنان بتفجير كبير… فهل هذا التفجير حادث أم عملية تخريبية؟

أتت التصريحات الأولى من إسرائيل ولبنان بهذا المعنى، فاستخدم الطرفات تعبيرات تدل على كونه ليس هجوماً. في الأوضاع الطبيعية ينبغي أن تُحفظ المواد الخطرة بهذه الكمية في ظروف خاصة. إلا أن الاحتفاظ بمواد خطرة بهذا الكم طوال هذه المدة بتدابير ضئيلة يربك العقول.

بالطبع إن تحديد نوعية الواقعة سواء كانت حادث عرضي أو عملية تخريبية أو هجوم أمر بالغ الأهمية. ولكن بالنهاية هناك بعض الأمور لن تتغير:

-فكلفة الانفجار ليست الخسائر بالأرواح والإصابات التي خلفها. هناك 300 ألف شخص فروا من منازلهم ولن يتمكنوا من العودة لشهور.

-النظام الصحي بلبنان على حافة الانهيار في الوقت الحالي. تم استدعاء كافة الأطباء وعربات الإسعاف إلى بيروت. ومع ذلك هناك أراء تذهب إلى أنّ حتى ذلك لن يكون كافياً. فهناك مستشفيين من 12 مستشفى أصبحتا خارج الخدمة. عندما يتحد ذلك المشهد مع الجائحة يصبح مرعباً. فهذا المرفأ يمثل شريان الحياة للاقتصاد اللبناني وليس بيروت فقط، ومهم كذلك بالنسبة للتجارة الخليجية؛ ف70 بالمئة من التجارة تتم من خلال هذا المرفأ، الذي لم يعد موجوداً. يمكن استخدام ميناء طرابلس كبديل، ولكنه غير كافي على الإطلاق.

-تقترب الخسائر الاقتصادية التي سيسفر عنها الانفجار من 100 مليار دولار. يُقدر الناتج المحلى الإجمالي بضعف هذا الرقم. عند يندمج ذلك مع ما أوردناه في الأعلى من مشكلات ورشوة ومحسوبية ونقص خدمات، يرد إلى الذهن سيناريو الانهيار. الشيء الوحيد الذي يمكنه منع ذلك هو منح خارجية ضخمة عاجلة لا ترد. ولكن لسوء الحظ؛ فإن استغلال هذا الوضع من قبل الدول التي لديها حسابات خاصة بلبنان أمر وارد.

-فقدت الليرة اللبنانية 80% من قيمتها السوقية في لأخر عام، وانطلقت المفاوضات من أجل الحصول على حزمة مالية ب 10 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، إلا أن الصندوق غير راغب في ذلك. بعد هذا الانفجار ربما يقرض الصندوق لبنان بشروط أشد.

إسرائيل هي المتهم المعتاد

-هناك ادعاءات بأن لإسرائيل أصابع خلف الانفجار. ما رأيكم بهذا الموضوع؟

تهديد نصر الله إسرائيل بهذه المادة (نترات الأمونيوم) على وسائل التواصل الاجتماعي وتغريدة الجيش الإسرائيلي بشأن الموضوع قبل عامين تركتا المقاربات المتفائلة التي تفيد بأن الواقعة حادث عرضي باهتة. عندما يتوحد هذا الانفجار مع شائعات تدخل إسرائيل فإن إسرائيل تبرز باعتبارها المتهم المعتاد.

تصريحات ترامب ذات دلالة

-كيف يجب أن تُفسر تصريحات ترامب حول الهجوم؟

كان هذا غريباً جداً بالنسبة لي. فإدلاء ترامب بهذا التصريح في الساعات الأولى للواقعة يطرح على العقل سؤال ما إذا كان ترامب سيركز على إيران من جديد أم لا. لأن النحو الذي تفهم به الدول هذا النوع من التطورات وتستغله مهم، بقدر الماهية الحقيقية للتطورات نفسها.

من الوارد أن تتداول إسرائيل خطابات التهديد لحزب الله وبالمثل تفعل أمريكا بالنسبة لإيران، وأن تعطيان إشارات التدخل. وتداول فيديو نصر الله -الذي ذكرته بالأعلى- على الفور ليس بالمصادفة (في الفيديو يقول إن ضرب السفن المحملة بنترات الأمونيوم بميناء حيفاء بالصواريخ سيكون له نفس تأثير السلاح النووي وسيسفر عن مقتل عشرات الآلاف).

[صباح، مقابلة صحفية: عيسى تاتليجان، 6 أغسطس 2020]

تسميات