اليونان.. تعنّت سياسي تغذّيه أطراف ثالثة

بعد بداية إيجابية شهدها المؤتمر الصحفي المشترك بين وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو ونظيره اليوناني نيكوس ديندياس في أنقرة، لم يستطع الأخير التزام الحفاظ على إيجابية الأجواء، فقام باتهام تركيا بالإخلال بحقوق بلاده في شرق المتوسط وبحر إيجة.

بعد بداية إيجابية شهدها المؤتمر الصحفي المشترك بين وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو ونظيره اليوناني نيكوس ديندياس في أنقرة، لم يستطع الأخير التزام الحفاظ على إيجابية الأجواء، فقام باتهام تركيا بالإخلال بحقوق بلاده في شرق المتوسط وبحر إيجة.

ولم يتوقف ديندياس عند حدّ الاتهام، بل قام باستخدام لغة تهديدية عندما قال: “إذا استمرت تركيا في انتهاك حقوقنا السيادية فإن العقوبات عليها ستكون حاضرة على جدول أعمالنا”. وفضلاً عن ذلك دعا تركيا إلى إعادة النظر في مسألة قرارها إعادة أيا صوفيا وكاريا إلى مساجد، بالإضافة إلى إدانته الاتفاقية البحرية الموقَّعة بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية، وهو ما عُدّ وقاحة دبلوماسية بامتياز.

إزاء هذا الموقف لم يتقبل وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو حديث نظيره اليوناني ولغته بحقّ تركيا، وشدّد على رفض الاتهامات، وذكّر نظيره أنه لم يوجّه خلال حديثه اتهامات إلى اليونان أملاً في استمرار اللقاء إيجابياً، ولم ينسَ جاوش أوغلو انتقاد تعامل اليونان مع الأقلية التركية، وتعامل اليونان مع قضية الهجرة واللاجئين، وانتهاك اليونان الأجواء التركية، كما دافع جاوش أوغلو عن حقوق القبارصة الأتراك في شرق المتوسط وأكّد أن تركيا ستستمرّ في الردّ على تواصل التصعيد اليوناني.

وقد فوجئ كل مَن شاهد البثّ المباشر للمؤتمر الصحفي الذي جاء بعد استقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لوزير الخارجية اليوناني، إذ تَحوَّل المسار من بداية إيجابية بعد كلمة وزير الخارجية التركي إلى نهاية جدلية بعد كلمة وزير الخارجية اليوناني، وإصراره على هذه الصورة السلبية على الرغم من اقتراح الوفد اليوناني قبل المؤتمر الصحفي تَجنُّب استخدام عبارات من شأنها إثارة الجدل أمام وسائل الإعلام خلال الاجتماع الذي سبق المؤتمر.

وحول السبب في هذا التصعيد كانت كلمات وزير الخارجية التركي لافتة عندما وجّه حديثه إلى نظيره اليوناني بالقول: “بإمكاننا أن نحل المشكلات التي بيننا وحدنا بلا أطراف أخرى”.

يتضح من هذا التصريح ومما نُقل عن الرئيس التركي قوله لوزير الخارجية اليوناني خلال لقائه معه: “يجب حل المشكلات بين البلدين بشكل مباشر كدولتين جارتين بلا دخول لأطراف ثالثة في الوسط بين البلدين”، أن أطرافاً ثالثة تسعى لتعطيل حلّ الخلاف اليوناني-التركي.

وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى تفصيل وقع في أثناء لقاء الوفدين في أنقرة، هو إطلاق اليونان إخطار نافتكس بأن سفينة التنقيب الفرنسية “لاتالانت” سوف تبدأ أعمالها جنوب جزيرتَي كريت ورودس، وفي منطقة تعتبرها تركيا ضمن الجرف القاري التابع لها، وعلى الفور طلبت تركيا من السفينة الفرنسية عدم دخول مناطق الجرف القاري التركي، وعلى الرغم من التحذيرات الدبلوماسية والميدانية فإن استجابة سفينة الأبحاث الفرنسية كانت سلبية ودخلت السفينة ضمن المنطقة برفقة فرقاطة يونانية، وصرح قائد السفينة بأنه سيواصل نشاطاته البحثية.

وإزاء هذا الموقف دفعت تركيا بفرقاطتين إلى المكان مما اضطرّ السفينة الفرنسية إلى المغادرة. وقد استدعت وزارة الخارجية التركية السفيرين الفرنسي واليوناني للاعتراض على هذه الحادثة والتحذير من تكرارها، ومع ذلك لم تصدر الخارجية التركية أي بيانات حول استدعاء السفيرين.

ويشير هذا الموقف إلى دور فرنسي سلبي في المحادثات بين تركيا واليونان، ويذكّرنا هذا بتصريح الرئيس التركي في سبتمبر 2020 عندما قال إن “اليونان ترتكب أخطاء كبيرة باعتمادها على وعود دول بتقديم الدعم لها”، مضيفاً في حديثه إلى اليونانيين: “إنكم تقومون بأعمال خاطئة، فلا تسلكوا هذه الطرق وإلا فستواجهون عزلة شديدة”.

أما الحدث الآخر الذي تم الإعلان عنه بعد السجال بين وزيرَي الخارجية التركي واليوناني فهو توقيع إسرائيل واليونان أكبر صفقة عسكرية بينهما، وفق ما أعلنته وزارة الدفاع الإسرائيلية، وذلك في إطار علاقات عسكرية وأمنية توطدت خلال السنوات الماضية في ظل رؤية مشتركة لتحجيم الموقف التركي عبر دعم القوة اليونانية في مواجهة تركيا.

وبموجب الصفقة ستقوم شركة “إلبيت سيستمز” الإسرائيلية بتشغيل مركز تدريب للقوات الجوية اليونانية وفقاً لعقد قيمته نحو 1.65 مليار دولار، كما ستزود الشركة اليونان بطائرات تدريب جديدة من طراز “إم-346” وستتولى صيانة أسطول التدريب الكامل للقوات الجوية اليونانية الذي يضمّ عشرات الطائرات من طراز “إم-346″، و”تي-6” لمدة 20 عاماً تقريباً.

يبدو أيضاً أن إسرائيل غير منسجمة مع رسائل الحوار والتطبيع مع تركيا على الرغم من منطقية العمل مع تركيا في ما يتعلق بنقل الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا، إذ وقّعت العام الماضي اتفاقاً مع اليونان وقبرص الرومية، وهو الأمر الذي اعتبره نتنياهو مساراً لجعل إسرائيل دولة عظمى في مجال الطاقة.

لا يمكن عزل هذه الأحداث عن التطورات الإقليمية الأخيرة، ومن بينها رسائل التطبيع التركي-المصري (إذ يبدو أن القاهرة وأنقرة غلّبتا المصالح الحقيقية في مجال الأمن الإقليمي والطاقة والمناطق البحرية) وزيارة الوفد الكبير للحكومة الليبية إلى أنقرة الذي تزامن مع زيارة وزير الخارجية اليوناني لبنغازي وقبلها زيارة رئيس الوزراء اليوناني لطرابلس ومحاولته الفاشلة لإلغاء الاتفاقية البحرية بين تركيا وليبيا.

يرى بعض الأطراف الإقليمية ومن بينها إسرائيل أن التقارب التركي-المصري سيشقّ الكتلة المناهضة لتركيا شرق المتوسط، وسيزرع حالة من الغموض على الأقلّ بين هذه الأطراف.

ويمكننا أن نتذكر تصريح الرئيس التركي في مارس/آذار الماضي عندما قامت السعودية بمشاركة اليونان في مناورات عسكرية، بأنّ بلاده ستبحث مع السلطات السعودية قرار إجرائها مناورات مع اليونان.

إذ إن تمكُّن تركيا من حل مشكلاتها مع مصر واليونان وغيرهما في ظلّ انتصاراتها في ليبيا وقره باغ وتمترسها خلف موقفها شرق المتوسط سيثبت هذه الانتصارات كرافعة لدور تركي إقليمي أكبر.

يبدو أن الضغوط الخارجية على اليونان والدعم المقدَّم لها كان أكبر من توصيات الدبلوماسيين اليونانيين لكبيرهم بالحفاظ على أجواء إيجابية خلال المؤتمر الصحفي في أنقرة، ومع ذلك لا تزالت أنقرة تحاول تجنب هذا الفخ من خلال الاستعداد للحوار، وهو ما أعلنت عنه وزارة الدفاع التركية باستعدادها لبدء جولة حوارات جديدة مع نظيرتها اليونانية خلال الأيام القادمة.

[تي آر تي عربي]

تسميات