النِّظام الجمهوريُّ الرِّئاسيُّ وإعادة هيكلة الجهاز التَّنفيذيِّ في تركيا

يتناول هذا البحث الخطوط العامَّة لنموذج الإدارة الذي تمَّ الانتقال إليه بعد انتخابات 24 يونيو/حزيران 2018 مع تحليلاتها. كما يتطرَّق إلى تجارب الدُّول التي يحكمها نظامٌ رئاسيٌّ، وتقييم خطوات رئيس الجمهوريَّة في صنع السِّياسة العامَّة، وتنفيذها، وزيادة قُدرَتها التَّقييميَّة، إلى جانب التَّغييرات التي طالت مجلس الوزراء والوزارات. ويرى البحث أن نظام الحكم الجمهوريّ الرِّئاسيّ يحتاج إلى إعادة هيكَلَة النِّظام التَّنفيذيِّ؛ لأنَّ التَّنظيم القويَّ السَّليم للسُّلطة التَّنفيذيَّة في نظام الحكم الجمهوريِّ الرِّئاسيِّ يُعَدُّ واحدًا من الشُّروط الأساسيَّة للأداء السَّريع والفعَّال.

يهدف الانتقال من النِّظام البرلمانيِّ إلى النِّظام الجمهوريِّ الرِّئاسيِّ في تركيا إلى إنهاء العقليَّة الوصائيَّة التي تحاول تصميم السِّياسة والمجتمع بطرقٍ لا تستند إلى الإرادة الشَّعبيَّة وهدم بُنيانها المؤسَّساتيِّ، كما يهدف إلى القضاء على الرِّئاسة المزدوجة في السُّلطة التَّنفيذيَّة، وإلى الاستقرار في الإدارة والأداء السَّريع والفعَّال، فنظام الحكم الجمهوريِّ الرِّئاسيِّ وضع حدًّا لممارسة السُّلطة التَّنفيذيَّة من خلال جهاز جَمعِيٍّ أو جماعيٍّ، ومنح الشَّخص الذي اختاره الشَّعب مباشرةً الحقَّ في ممارسة السُّلطة التَّنفيذيَّة، مع بقائه في منصبه لمدَّة خمس سنواتٍ من دون انقطاعٍ[1].

في النِّظام الجديد يحدّد رئيس الجمهوريَّة جميع السِّياسات العامَّة التي تخصُّ المجتمع من الأمن والسِّياسة الخارجيَّة، وصولًا إلى التَّعليم والصِّحَّة، ويطبِّقها ويتابع تنفيذها بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ خلال خمس سنواتٍ، وفي إطار هذه السِّياسات من المتوقَّع أنْ يلبِّي الرَّئيس المتطلَّبات والاحتياجات المجتمعيَّة من خلال توفير حلول المشكلات المزمنة للمجتمع، وتوفير الخدمات العامَّة بطريقةٍ فعَّالةٍ وبنَّاءةٍ.

يحتاج نظام الحكم الجمهوريُّ الرِّئاسيُّ إلى تجاوز البنيَةِ التَّنفيذيَّة المزدوجة، وإلغاء مؤسَّسة رئاسة الوزراء، وإعادة هيكَلَةِ مجلس الوزراء والوزارات، وإعادة تعريف مؤسَّسات الوزارات ومهامِّها ووظائفها، وبعبارةٍ أُخرى يحتاج إلى إعادة هيكَلَة النِّظام التَّنفيذيِّ؛ لأنَّ التَّنظيم القويَّ السَّليم للسُّلطة التَّنفيذيَّة في نظام الحكم الجمهوريِّ الرِّئاسيِّ يُعَدُّ واحدًا من الشُّروط الأساسيَّة للأداء السَّريع والفعَّال، فرئيس الجمهوريَّة أردوغان خلال تعريفه بنموذج النِّظام الجديد أوضح بأنَّه يريد إنشاء نموذجٍ للإدارة تغيب فيه البُنى العاطلة، أو تَتَحوَّل فيه البُنى المتعدِّدة التي تمارس نشاطها في القطاع نفسه، وتنخفض فيه عدد المناصب، ويجري فيه اتِّخاذ القرارات الواضحة السَّريعة، ويتمُّ فيه التَّركيز على النَّتائج، وتُنَشَّطُ فيه آليَّات الاستشارة والتَّنسيق[2].

 

عمليَّة الانتقال إلى نموذج الإدارة الجديد في تركيا:

جُهِّزَ دستور 1982 قبل استفتاء 16 أبريل/نيسان 2017 بسلطاتٍ قويَّةٍ، لكنَّه قدَّم نظامًا برلمانيًّا يقوم على رئيسٍ للجمهوريَّة غير مسؤولٍ، ومجلسِ وزراء قويٍّ مسؤولٍ، وتسبَّبت هذه البنيَةُ الثُّنائيَّة (الازدواجيَّة) للسُّلطة التَّنفيذيَّة في توتُّراتٍ سياسيَّةٍ كثيرةٍ، وأَنتجت الأزمات والصِّراعات في فتراتٍ مختلفةٍ من تاريخ تركيا. إلى جانب ذلك، وبالنَّظر إلى الحكومات الائتلافيَّة قصيرة الأجل والضَّعيفة نسبيًّا والتي نشأت خلال تسعينيَّات القرن الماضي- عمل النِّظام البرلمانيُّ في تركيا على هيمنة العقليَّة الوصائيَّة وكيانها بدل السِّياسة المدنيَّة والإرادة الشَّعبيَّة، فحدَّ هذا المناخ السِّياسيُّ من قدرة الحكومات على حلِّ المشكلات وصُنعِ السِّياسات، وأدَّى عدم الاستقرار السِّياسيِّ والأزمات الاقتصاديَّة إلى صعوبة إنجاز السِّياسات العامَّة والإصلاحات المطلوبة ومتابعتها لتحقيق النَّجاح، لهذه الأسباب لجأ أنصار التَّغيير في مناقشات تغيير النِّظام السِّياسيِّ إلى حُجَجِ “إنهاء الرِّئاسة المزدوجة” و”الاستقرار الإداريِّ” و”الإجراء السَّريع والفعَّال”[3].

بلغت المناقشات المستمرَّة منذ أربعين سنةً في تركيا حول التَّغييرات في النِّظام السِّياسيِّ غايتها في استفتاء 16 أبريل/نيسان 2017، وتقرَّر الانتقال من النِّظام البرلمانيِّ إلى نظام الحكم الجمهوريِّ الرِّئاسيِّ من قِبَلِ الشَّعب، وهكذا، مرَّ التَّغيير بمحطاتٍ عدَّةٍ، بدأت باعتماد انتخاب رئيس الجمهوريَّة من قِبَلِ الشَّعب مباشرةً في عام 2007 تحت تأثير “أزمة 367″، وانتخاب رئيس الجمهوريَّة من قِبَلِ الشَّعب بشكلٍ مباشرٍ في عام 2014، وابتعاد النِّظام بالفعل عن النِّظام البرلمانيِّ، وتحوُّله إلى نظامٍ نصف رئاسيٍّ دونَ تسميَتِه بذلك، وامتلاك هويَّته الحقيقيَّة في النِّهاية بعد استفتاء 16 أبريل/نيسان 2017[4].

إلى جانب القبول بنظام حكومة الرِّئاسة الجمهوريَّة في استفتاء 16 أبريل/نيسان كان من المتوقَّع أنْ يُنتَقَل إلى النِّظام الجديد بكامل المعنى بعد إجراء الانتخابات البرلمانيَّة وانتخابات رئاسة الجمهوريَّة للمرَّة الأولى في وقتٍ واحدٍ، وجاءت نتيجة انتخابات 24 يونيو/حزيران 2018 بفوز “تحالف الجمهور” الذي وعد بالتَّحوُّل المؤسَّساتيِّ إلى نظام حكومة الرِّئاسة الجمهوريَّة في الانتخابات مقابل “تحالف الشَّعب” الذي نادى بالعودة إلى النِّظام البرلمانيِّ، فبرزت الحاجة إلى إعادة هيكلة الدَّولة انسجامًا مع النِّظام الجديد؛ لأنَّ نظام حكومة الرِّئاسة الجمهوريَّة بوصفه نموذج حكومةٍ ذات رئيسٍ واحدٍ يضع الحدَّ لممارسة السُّلطة التَّنفيذيَّة من خلال هيئةٍ جماعيَّةٍ، وينتقل برئاسة الجمهوريَّة إلى مركز النِّظام السِّياسيِّ والتَّنفيذيِّ.

بالمقابل يشكِّل مجلس الوزراء والوزارات اللَّبنات الأساسيَّة في النِّظام البرلمانيِّ، فيقوم مجلس الوزراء في النِّظام البرلمانيِّ بصياغة السِّياسة في جميع المجالات السِّياسيَّة ويتابع تنفيذها، ووفقًا لذلك يُعدّ الوزراء الجهات السِّياسيَّة الأكثر أهمِّيَّةً في النِّظام البرلمانيِّ؛ لكونهم يجمعون بين صنع القرار السِّياسيِّ في أعلى مستوياته والسُّلطة التَّنفيذيَّة.

وفي هذا السِّياق مهَّد الانتقال إلى نظام حكومة رئاسة الجمهوريَّة في تركيا الطريق إلى إلغاء رئاسة الوزراء، وإعادة هيكَلَة مجلس الوزراء والوِزارات، وتحديد الوظائف والمهمَّات من جديدٍ، والتَّنفيذ الكامل للنِّظام الجديد يتطلَّب أنْ تكون مؤسَّسة رئاسة الجمهوريَّة في المقدمة، كما يتطلَّب إجراء تغييراتٍ مؤسَّساتيَّةٍ ووظيفيَّةٍ مهمَّةٍ للغاية، ولاسيَّما على مستوى الإدارة المركزيَّة، وبالفعل، يقوم رئيس الجمهوريَّة بإدارة عمليَّة التَّغيير هذه من خلال المراسيم التي يصدرها عَقِبَ أدائه اليمين الدُّستوريَّ، وتولِّيه منصبه مباشرةً.

 

إعادة هيكَلَة الجهاز التَّنفيذيِّ في نظام حكومة الرِّئاسة الجمهوريَّة:

في نظام حكومة الرِّئاسة الجمهوريَّة تكون مؤسَّسة رئاسة الجمهوريَّة في مركز التَّنفيذ، وأساس الإدارة المركزيَّة، وفي هذا السِّياق تَتَكوَّن الإدارة المركزيَّة في البُنية الإدارية لتركيا من “مؤسَّسة رئاسة الجمهوريَّة” و”مجلس الوزراء” و”الوزراء” و”مؤسَّسات المناطق”.

مؤسَّسة رئاسة الجمهوريَّة في نموذج الإدارة الجديد:

في نظام حكومة الرِّئاسة الجمهوريَّة يصبح رئيس الجمهوريَّة المنتخب مباشرةً من قِبَلِ الشَّعب الجهةَ الرَّئيسة المسؤولة عن القضايا التَّنفيذيَّة، مثل صياغة السِّياسات العامَّة، وتنفيذها، وتقديم الخدمات العامَّة، وتوفير الحاجات الاجتماعيَّة، فالموقع الجديد لرئيس الجمهوريَّة من النَّاحية التَّنفيذيَّة، يُحَمِّلُهُ الكثير من المهامِّ والسُّلطات والمسؤوليَّات، ولكي يستطيع رئيس الجمهوريَّة أداء مهامِّه بالكامل واستخدام صلاحيَّاته بفاعِلِيَّةٍ وعقلانيَّةٍ- أُعِيدَت هيكلة مؤسَّسة رئاسة الجمهوريَّة في النِّظام الجديد بطريقةٍ مماثلةٍ لـ”المكتب التَّنفيذي للرَّئيس” في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، لكنَّه في هذه العمليَّة أُخِذَ بعين الاعتبار الثَّقافة السِّياسيَّة التركية وبنيتها الإداريَّة وتقاليدها والمشكلات السِّياسيَّة التي واجهتها مؤخَّرًا وأولويَّاتها الإستراتيجيَّة، ثمَّ إنشاء بُنيَةٍ جديدةٍ “خاصَّةٍ بتركيا”.

تتميَّز البنيَةُ الجديدة لمؤسَّسة رئاسة الجمهوريَّة بأنَّها أَخَذَت بعين الاعتبار “وحدات الأركان” التي تُوفِّر الدَّعم لرئيس الجمهوريَّة في صياغة السِّياسات وتنفيذها، و”الوحدات المساعدة” التي تُسيّر الشُّؤون الذَّاتيَّة لمؤسَّسة رئاسة الجمهوريَّة وتنفّذ الأعمال المساعدة لرئيس الجمهوريَّة في أداء مهامِّه.

  1. الوحدات المساعدة: مديريَّة القلم الخاصِّ، ورئاسة الشُّؤون الإداريَّة:

تتضمَّن مؤسَّسة رئاسة الجمهوريَّة مديريَّة القلم الخاصِّ، ورئاسة الشُّؤون الإداريَّة بوصفهما وحدتَي مساعدةٍ من أجل مساعدة رئيس الجمهوريَّة في أداء مهامِّه. تتولَّى مديريَّة القلم الخاصِّ إدارة شؤون المراسلات الرَّسميَّة والخاصَّة لرئيس الجمهوريَّة، وتنظيم مراسمه وزياراته الدَّاخليَّة والخارجيَّة.

وتتكوَّن رئاسة الشُّؤون الإداريَّة من أربع وحداتٍ رئيسة، هي: “المديريَّة العامَّة للقوانين والتَّشريعات”، و”المديريَّة العامَّة للعاملين والمبادئ”، و”المديريَّة العامَّة لشؤون الأمن”، و”المديريَّة العامَّة للدَّعم والخدمات الماليَّة”.

والمدير الأعلى لرئاسة الشُّؤون الإداريَّة هو رئيس الشُّؤون الإداريَّة، وهو المسؤول عن نشاطات جميع الوحدات أمام رئيس الجمهوريَّة[5]، ويعادل منصب رئاسة الشُّؤون الإداريَّة في الواقع منصب سكرتير البيت الأبيض في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة (White House Chief of Staff).

  1. وحدات أركان مؤسسة رئاسة الجمهوريَّة:
  • نوَّاب رئيس الجمهوريَّة:

كان موقع نوَّاب رئيس الجمهوريَّة وعددهم في النِّظام الجديد في تركيا من الموضوعات التي شغلت الأجندات اليوميَّة، سواءً في نقاشات استفتاء 16 أبريل/نيسان 2017، أم خلال الحملة الانتخابيَّة في 24 يونيو/حزيران 2018، وقد تمَّ توضيح بعض المسائل عند نشر المرسوم الرِّئاسيِّ رقم 1 حول مؤسسة رئاسة الجمهوريَّة.

الجدير بالذِّكر هنا بدايةً أنَّ المرسوم المذكور استَخدَم عبارة “نوَّاب رئيس الجمهوريَّة” في قسمه الذي ينظِّم نوَّاب رئيس الجمهوريَّة، وهذا يعني أنَّه من المحتمل كثيرًا أنْ يزداد عدد نوَّاب رئيس الجمهوريَّة في المستقبل، رغم وجود نائبٍ واحد لرئيس الجمهوريَّة حاليًّا في النِّظام الجديد، وقد صرَّح الرَّئيس أردوغان ببعض التَّوضيحات حول هذا الموضوع في المقابلة الصَّحفيَّة التي أُجرِيَت معه[6]. وتتضمَّن المادَّة 18 من المرسوم الرِّئاسيِّ رقم 1 أنَّه في حال خُلُوِّ منصب الرِّئاسة من الرَّئيس لأيِّ سببٍ كان، يتسلم نائب الرَّئيس الأكبر سنًّا من بين النُّوَّاب منصب الرَّئيس بالوكالة، ويستخدم صلاحيَّاته ريثما يُنتَخَب رئيسٌ جديد للجمهوريَّة، وفي حال انصراف رئيس الجمهوريَّة عن منصبه مؤقتًّا؛ (لأسبابٍ صحِّيَّةٍ أو زيارةٍ خارجيَّةٍ)، ينوب عنه نُوَّابه في مهامِّه بالوكالة ويستخدمون صلاحيَّاته[7].

  • المكاتب:

تُعَدّ المكاتب واحدة من أهم البنى في المؤسسة التابعة للرئيس في الدول التي يحكمها النظام الرئاسي. وبالنظر إلى ممارساتها داخل هذه البلدان تقوم هذه المكاتب بشكل عام بجمع البيانات والمعلومات اللازمة لصياغة السياسات العامة في مجال خبراتها السياسية، وإنتاج المعلومات الميدانية؛ وبناءً على ذلك، تقوم بتطوير البدائل السياسية المناسبة، وصياغة مسودات السياسات والقرارات، وتقديمها إلى الرئيس في شكل تقارير. في الممارسات القُطْرِيَّة يمكن أن تمنح المكاتب مهمّة تنسيق المشروعات وتطوير، ومراقبة التنفيذ، ثم مهمّة تنفيذها. ولذلك، تعدّ المكاتب من بين أهم البنى التي تؤدّي دورًا في تطوير قدرة الرئيس على صنع السياسة العامة وتنفيذها.

يحتوي نموذج الإدارة الجديد على مكاتب ترتبط مباشرةً برئيس الجمهوريَّة، ذات ميزانيَّةٍ خاصَّةٍ، وكيانٍ قانونيٍّ خاصٍّ، واستقلالٍ إداريٍّ وماليٍّ، بشكلٍ مماثل لممارسات الدُّول التي يحكمها النِّظام الرِّئاسيُّ، هذه المكاتب هي “المكتب الماليُّ” و”مكتب الموارد البشريَّة” و”مكتب التَّحوُّل الرَّقميِّ” و”مكتب الاستثمار”.[8]

شُكِّلت بُنيَة هذه المكاتب في نموذج الإدارة الجديد بوصفها وحداتٍ تنفِّذ الأنشطة في الموضوعات ذات الصِّلة بجميع الوزارات، وقد عدّ رئيس الجمهوريَّة أردوغان هذه الوحدات في نموذج الإدارة الجديد أقربَ الكوادر إلى رئيس الجمهوريَّة، ووصفها بـ”الفناء الخلفيِّ” لتطوير السِّياسة والمشروعات، وأشار إلى أنَّ هذه الوحدات خلال عملها بشكلٍ قوِيٍّ مع رئيس الجمهوريَّة ستدير المشروعات بما يتماشى مع أولويَّاته، وستكون لها طبيعةٌ تنفيذيَّةٌ، من دون أنْ تقع في شراك البيروقراطيَّة[9].

ج- اللِّجان السِّياسيَّة:

تُعَدّ اللِّجان من الأدوات الأُخرى التي يُلجَأُ إليها في الدُّول التي يحكمها النِّظام الرِّئاسيُّ من أجل تحسين قدرة الرَّئيس على وضع السِّياسة العامَّة في ممارسة سُلُطاته التَّنفيذيَّة، هذه البُنى التي تضْطَلعُ في الأغلب بمهامِّ الاستشارة والاقتراح تعمل بوصفها وحدة أركانٍ كاملةٍ في الممارسات القُطرِيَّة، ويمكن لهذه اللِّجان أنْ تُظهِرَ الممارسات القُطرِيَّةَ بأسماءٍ وصِيَغٍ مختلفةٍ، فعلى سبيل المثال: تتَّصف هذه اللِّجان في الولايات المتَّحدة بأنّها دائمة أو مؤقتة، وكما يمكن لها أن تتشكَّل من الوزراء أو البيروقراط، فيمكن كذلك أنْ تتشكَّل من ممثِّلي القطاعات المختصَّة وأصحاب الشَّأن من المدنيِّين أيضًا، وتقوم اللِّجان الاستشاريَّة بمهمَّة توفير المعلومات المستقلَّة والتَّوصيات المتعلِّقة في مجال السِّياسة ذات الصِّلة بها، وتكفَلُ هذه اللِّجان التي ستتشكل في قطاعاتٍ مختلفةٍ أو قضايا سياسيةٍ؛ مشاركةَ أصحاب الشَّأن المعنيِّين في تطوير السِّياسات العامَّة، كما تتيح هذه اللِّجان إمكانيَّة التَّعاون والتَّنسيق بين المؤسَّسات والقطاعات في حلِّ المشكلات ذات الأبعاد المتعدِّدة.

تضم مؤسسة رئاسة الجمهوريَّة في نموذج الإدارة الجديد لجانًا سياسيَّةً بشكلٍ مماثلٍ لممارسات الدُّول التي يحكمها النِّظام الرِّئاسيُّ. وهذه اللِّجان هي:

“لجنة سياسات الإدارة المحلِّيَّة”، و”لجنة السِّياسات الاجتماعيَّة”، و”لجنة سياسات الصِّحَّة والغذاء”، و”لجنة السِّياسات الثَّقافيَّة والفنيَّة”، و”لجنة السِّياسات القانونيَّة والحقوقيَّة”، و”لجنة السِّياسات الأمنيَّة والخارجيَّة”، و”لجنة السِّياسات الاقتصاديَّة”، و”لجنة سياسات التَّربية والتَّعليم”، ولجنة سياسات العلوم والتِّكنولوجيا والحداثة”[10].

المنتظر في نموذج الإدارة الجديد أنْ تقوم هذه اللِّجان بتطوير المقترحات في السِّياسات، وتوجيه التَّحذيرات إلى الوزارات، ومتابعة النَّشاطات وإعداد التَّقارير المرحليَّة ذات الصِّلة بها، وترسيخ مبدأ العقل المشترك من خلال زيادة مشاركة أصحاب الشَّأن (مثل المنظَّمات الأهليَّة وممثِّلي القطاعات والأكاديميِّين) في عملية صنع السِّياسات، ويُرادُ من خلال هذه اللِّجان في نموذج الإدارة الجديد كذلك تقليلُ عدد الهياكل الإداريَّة الحاليَّة التي يتجاوز عددها السِّتِّين في صورةٍ متناثرةٍ للغاية، والتَّوصل بها إلى ترتيبٍ مُعيَّنٍ.

يتضمَّن نموذج الإدارة الجديد بعض البُنى المرتبطة برئاسة الجمهوريَّة تحت اسم الرئاسة. وهذه الرِّئاسات هي:

“رئاسة شؤون الدَّولة”، و”رئاسة هيئة الأركان”، و”رئاسة تشكيلات الاستخبارات الوطنيَّة”، و”رئاسة الصِّناعات الدِّفاعيَّة” -(وكانت في البُنية الإداريَّة السَّابقة باسم المستشاريَّة)-، و”الأمانة العامَّة لِلَجنة الأمن القوميِّ”، و”رئاسة الشُّؤون الدِّينيَّة”، و”لجنة تفتيش الدَّولة”، و”إدارة صندوق أصول تركيا”، و”رئاسة إدارة القصور الوطنيَّة”، و”رئاسة الاتِّصالات”، و”رئاسة الموازنة والإستراتيجيَّة”[11]. بعض هذه الرِّئاسات مرتبطٌ بالأساس برئاسة الجمهوريَّة في الوقت الحاليِّ: (رئاسة الصِّناعات الدِّفاعيَّة ولجنة تفتيش الدَّولة)، أمّا رئاسة هيئة الأركان، ورئاسة تشكيلات الاستخبارات الوطنيَّة، ورئاسة الشُّؤون الدِّينيَّة فكانت في البُنية الاداريَّة السَّابقة مرتبطةً برئاسة الوزراء أو كانت مؤسَّسةً مسؤولةً، وعند إلغاء رئاسة الوزراء تمَّ ربطها برئيس الجمهوريَّة الذي يتولَّى سلطات الجهاز التَّنفيذيِّ في نظام الإدارة الجديد. وكذلك الحال بالنِّسبة لـ”إدارة صندوق أصول تركيا” المرتبطة برئاسة الوزراء فيما سبق، إذ تمَّ ربطها برئاسة الجمهوريَّة في النِّظام الجديد. وقد تمَّ تشكيل “رئاسة الاتِّصالات” و”رئاسة الموازنة والاستراتيجيَّة” للمرَّة الأولى في النِّظام الجديد، وتنسّق رئاسة الاتِّصالات جميع الأعمال المتعلِّقة بالصَّحافة والنَّشر والإعلان والاتِّصالات ذات الصِّلة بالدَّولة ورئاسة الجمهوريَّة، وتتركَّز مهمَّة رئاسة الموازنة والإستراتيجيَّة حول تشكيل الميزانيَّة وعمليَّة إدارتها التي هي في عُهدَةِ رئاسة الجمهوريَّة من الآن فصاعدًا بشكلٍ مُشابهٍ “لمكتب الإدارة والميزانيَّة” في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وستعمل رئاسة الموازنة والإستراتيجيَّة كوَحدةٍ مُهِمَّتها إعداد موازنةٍ من شأنها إنشاء روابط بين رؤية رئيس الجمهوريَّة وأهدافه وأولويَّاته السِّياسيَّة، والموارد الماليَّة التي ستنتقل إلى المؤسَّسات العامَّة.

د- مجلس الوزراء:

يتكوَّن مجلس الوزراء في نظام حكومة رئاسة الجمهوريَّة من وزراء يعيّنهم ويعزلهم رئيس الجمهوريَّة مباشرةً، ويختار الرَّئيس الوزراء من أشخاصٍ ليسوا أعضاءً في البرلمان، وإن كانوا أعضاء في البرلمان تُلغى عضويَّتهم في البرلمان بمجرد تعيينهم وزراء، وهذا التَّطبيق يزيد من احتمال الانتقال من مفهوم “الوزير السِّياسيِّ” إلى “الوزير الخبير” في تركيا.

غير أنَّ ذلك لا يعني تشكيل “مجلس وزراء تِكنوقراطٍ” في النِّظام الجديد. حيث إنَّ رئيس الجمهوريَّة أردوغان أعلن بوضوحٍ خلال مشاركته في أحد البرامج التلفزيونيَّة خلال حملته الانتخابيَّة في 24 يونيو/حزيران 2018 أنَّه بوصفه سياسيًّا وحزبيًّا ناضل لسنواتٍ طويلةٍ ضدَّ البيروقراطيَّة الأليغارشيَّة، فلن يشكِّل مجلس وزراء تكنوقراطٍ أبدًا، وبيان أردوغان هذا يشير إلى أنَّه سيعمل على تشكيل مجلس وزراء يتألَّف من جهاتٍ فاعلةٍ خبيرةٍ في مجال خدمتها، وذات رؤيةٍ سياسيَّة وخبيرةٍ بديناميكيَّات السِّياسة، وإذا نظرنا إلى أوَّل مجلس وزراء في النِّظام الجديد نجد أنَّ التَّعيين في وزارة العدل، ووزارة الخارجيَّة، ووزارة الدَّاخليَّة، ووزارة الخزانة والماليَّة المشكَّلة حديثًا- كان سياسيًّا، وفي بعض الوزارات، مثل وزارة الثَّقافة والسِّياحة ووزارة التِّجارة كان التَّعيين من القطاع الخاصِّ بهما، وفي بعض الوزارات الأُخرى، مثل وزارة البيئة والعمران ووزارة النَّقل والبُنية التَّحتيَّة كان التَّعيين بيروقراطيًّا. ومن هنا يمكن القول إنَّ المرونة المتأصِّلة في النِّظام الجديد والتَّعاون بين القطاعات ومبادئ إنشاء العقل المشترك تنعكس في البُنية الوزاريَّة الجديدة.

 

ه – الوزارات في نموذج الإدارة الجديد:

في نموذج الإدارة الجديد أُجْرِي بعض التَّغييرات في الوزارات، وكانت الخطوة الأولى هي تقليل عدد الوزارات، وتمَّ كذلك تحوُّلٌ في دور الوزارات ووظائفها، والسَّبب الرَّئيس في ذلك، هو أنَّ رئيس الجمهوريَّة بشكلٍ عامٍّ وفريقه القريب منه في النِّظام الجديد هما صانع السِّياسة الرَّئيس، ووظيفة الوزارات وضع السِّياسة التَّحتيَّة، والتَّركيز على التَّنفيذ والإشراف. وعند تقييم الوزارات في تركيا من حيث المظهر العامِّ، يمكننا أنْ نقول: إنَّ عدد الوزارات قد انخفض ولاسيَّما في التَّغييرات التي أجريت خلال فترة حكومة حزب العدالة والتَّنمية، وتمَّ التَّوفير في إطارٍ عقلانيٍّ قدر الإمكان. وفي الواقع، نالت الوزارات أولويَّة التَّعامل من قِبَلِ حزب العدالة والتَّنمية الحاكم، وخُفِّض العدد من 37 إلى 26.

وتوجَّه نظام الإدارة الجديد نحو دمج الوزارات من أجل تخفيض عددها، وزيادة وظائفها، وتحسين كفاءتها، وهكذا خُفِّض عدد الوزارات في نظام الإدارة الجديد إلى 16 وزارةٍ. والوزارات في نظام الإدارة الجديد هي: وزارة العدل، وزارة الدَّاخليَّة، وزارة الدِّفاع الوطنيَّة، وزارة التَّربية الوطنيَّة، وزارة الصِّحَّة، وزارة الطَّاقة والمصادر الطَّبيعيَّة، وزارة البيئة والتَّعمير، وزارة الثَّقافة والسِّياحة، وزارة الشَّباب والرياضة، وزارة الخزانة والماليَّة، وزارة النَّقل والبُنى التَّحتيَّة، وزارة الخارجيَّة، وزارة العمل والخدمات الاجتماعيَّة والأسرة، وزارة الزِّراعة والغابات، وزارة الصِّناعة والتِّكنولوجيا. وقد كانت أكثر التَّغييرات جذريَّةً على مستوى الوزارات في المجال الاقتصاديِّ، وكان الهدف من هذه الخطوة هو تبسيط الإدارة الاقتصاديَّة وتجميعها في قبضةٍ واحدةٍ.

إضافة إلى عدد الوزارات كانت القضيَّة الأُخرى التي جاءت في مقدِّمة المناقشات ذات الصِّلة بالوزارات في نظام الإدارة الجديد هي التَّنظيم الدَّاخلي للوزارات، ففي العهد الجديد  أُلغِيَ منصبا المستشار، ومساعد المستشار، وخُفِّضت الخطوات الهرميَّة في الوزارات، إضافة إلى ذلك صُنِّف رؤساء الدَّوائر والمناصب العليا باعتبارهم كبار المسؤولين التَّنفيذيِّين، ويُعينهم رئيس الجمهوريَّة.

 

الخاتمة:

يُلاحَظُ أنَّ الهدف الأساسيَّ في نموذج الإدارة الجديد هو تعزيز كفاءة رئيس الجمهوريَّة الذي استقر في مركز السِّياسة والإدارة -بعد تغيير النِّظام- في صياغة السِّياسة العامَّة وتنفيذها وتقييمها، ولهذا السَّبب أُنشِئت مكاتب ولجان داخل البُنيَةِ المرتبطة مباشرةً برئيس الجمهوريَّة، وهذه الخطوة مشابهةٌ للممارسات العمليَّة في الدُّول التي يحكمها النِّظام الرِّئاسيُّ، ويمكننا أنْ نقول: إنَّه عند اتِّخاذ القرار في إنشاء أيِّ مكتبٍ أو لجنةٍ أو عند تحديد دورهما ومهامِّهما على حدٍّ سواءٍ، أُخِذَ بعين الاعتبار أهدافُ تركيا نحو عام 2023، والبنيَةُ الحاليَّة لنظام الإدارة العامَّة التركي ومشكلاته، والاتجاهات الجديدة في الإدارة العامَّة، (مثل التَّنسيق والتَّعاون بين المؤسَّسات والقطاعات، وإضفاء الطَّابع الوظيفيِّ على عمليَّات التَّشاور والتَّفاوض).

وقد لوحظت محاولة تخفيض عدد الوزارات بالتَّوازي مع ممارسات البلدان المتقدِّمة بوجهٍ عامٍّ، وأنَّ أكثر التَّغييرات جذريَّةً على مستوى الوزارات كانت في المجال الاقتصاديِّ، ويمكن القول: إنَّ النَّموذج “الوزاريَّ الفائق” كان الأساس الذي قامت عليه إعادة بناء المجال الاقتصاديِّ، ولا شكَّ أنَّ نظام الإدارة الجديد بحالته اليوم لا يقدِّم سوى الإطار العامِّ والمنظور الأساسيِّ لعمليَّة إعادة الهيكلة.

إنَّ نموذج الإدارة الجديد يحمل إرهاصات مجموعةٍ واسعةٍ من التَّغييرات المؤسَّسيَّة والوظيفيَّة في البُنيَة والإدارة المركزيَّة المرتبطة مباشرةً برئيس الجمهوريَّة أو من حيث نظام العاملين على حدٍّ سواءٍ.

الهوامش والمراجع:

 

[1] والفرق الجوهريُّ هو أنَّ نظام الحكومة البرلمانيَّة يقوم على القيادة الجماعيَّة في مباشرة السُّلطة التَّنفيذيَّة، ونظام الحكومة الرِّئاسيِّ يقوم على القيادة الفرديَّة التي تأخذ صلاحيَّتها من مصدر السُّلطات جميعًا، وهو الشَّعب. المترجم.

[2] “تصريح رئيس الجمهوريَّة أردوغان بشأن النِّظام الجديد”، جريدة صباح، 22. 06. 2018، https://www.sabah.com.tr/gundem/2018/06/22/son-dakika-cumhurbaskani-erdogandan-yeni-sistem-aciklamasi

 

[3] نبي ميش ومحمد زاهد صوبجي، حزب العدالة والتَّنمية ونظام حكومة رئاسة الجمهوريَّة، حزب العدالة والتَّنمية في عامه العاشر: السِّياسة، المحرر: نبي ميش وعلي أصلان، إسطنبول، تحليلات ستا 2018، ص148.

[4] Nebi Miş and Burhanettin Duran, The Transformation of Turkey’s Political System and the Executive Presidency, Insight Turkey, 18 (4), 2016, p. 21.

[5] مرسوم رئاسة الجمهوريَّة حول مؤسسة رئاسة الجمهورية، المادة 5، جريدة رسمية بتاريخ 10. 07. 2018،

http://www.resmigazete.gov.tr/main.aspx?home=http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2018/07/20180710.htm&main=http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2018/07/20180710.htm

 

[6] “أجاب رئيس الجمهوريَّة أردوغان: هل سيعمل بنائبٍ واحدٍ؟”، 11 يوليو/تمُّوز 2018، https://www.yeniakit.com.tr/haber/cumhurbaskani-erdogan-cevapladi-tek-yardimci-ile-mi-calisacak-491508.html. “يمكن زيادة عدد نوَّاب الرَّئيس”، 11 يوليو/تمُّوز 2018، https://www.dunyabulteni.net/guncel/baskan-yardimci-sayisi-artabilir-h425492.html

[7] مرسوم رئاسة الجمهوريَّة حول مؤسسة رئاسة الجمهوريَّة، المادَّة 18، الجريدة الرسميَّة بتاريخ 10. 07. 2018،

http://www.resmigazete.gov.tr/main.aspx?home=http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2018/07/20180710.htm&main=http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2018/07/20180710.htm

 [8] مرسوم رئاسة الجمهوريَّة حول مؤسسة رئاسة الجمهوريَّة، المادَّة 525، الجريدة الرسميَّة بتاريخ 10. 07. 2018، http://www.resmigazete.gov.tr/main.aspx?home=http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2018/07/20180710.htm&main=http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2018/07/20180710.htm

[9] “تصريح رئيس الجمهوريَّة أردوغان بشأن النِّظام الجديد”، جريدة صباح، 22. 06. 2018، https://www.sabah.com.tr/gundem/2018/06/22/son-dakika-cumhurbaskani-erdogandan-yeni-sistem-aciklamasi

 [10]مرسوم رئاسة الجمهوريَّة حول مؤسسة رئاسة الجمهوريَّة، المادَّة 20، الجريدة الرسميَّة بتاريخ 10. 07. 2018، http://www.resmigazete.gov.tr/main.aspx?home=http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2018/07/20180710.htm&main=http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2018/07/20180710.htm

[11] مرسوم رئاسة الجمهوريَّة حول مؤسسة رئاسة الجمهوريَّة، المادة 37، الجريدة الرسميَّة بتاريخ 10. 07. 2018، http://www.resmigazete.gov.tr/main.aspx?home=http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2018/07/20180710.htm&main=http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2018/07/20180710.htm

تسميات