العلاقات التركية الإسرائيلية

إن تركيا هي الحصن الأكبر ضد التوسع والعدوان الإيراني في شمال العراق وشمال سوريا، وبالتالي فالمصلحة المشتركة في كبح التوسع الإيراني يمكن أن تحفز تركيا وإسرائيل نحو تعاون سريع وأكبر، حيث لا تستطيع إسرائيل مواجهة إيران من خلال التحالف مع الإمارات العربية المتحدة أو حتى المملكة العربية السعودية فقط، فدعم تركيا أمر بالغ الأهمية.

إن نقل الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا يمكن أن يكون العمود الفقري لشراكة متينة.

تستمر الجهود الرامية إلى تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل، حيث يُتوقع أن تؤتي عملية التطبيع ثمارها مع زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتصوغ إلى تركيا المقررة في يومي 9 و10 آذار/مارس، حيث إن ما يزيد أهمية هذه الزيارة هو قبول الرئيس الإسرائيلي لدعوة القيادة التركية لزيارة تركيا بعد أكثر من عقد من العلاقات الفاترة بين البلدين.

تأتي عملية التطبيع التركية-الإسرائيلية تحت إملاء الضغوط الإقليمية والعالمية، وتحريك الفرص المتبادلة المتوقعة على الصعيدين الإقليمي والعالمي.

الشرق الأوسط كما نعرفه؟ ليس بعد الآن

يجري التطبيع التركي الإسرائيلي في سياق تغيير هيكلي في البيئة الإقليمية للشرق الأوسط، حيث يجري جميع اللاعبين البارزين في الشرق الأوسط مثل تركيا ومصر والمملكة العربية السعودية وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة وقطر -والذين يصادف أنهم أيضا حلفاء تقليديون للولايات المتحدة- عملية إعادة تقدير من وتكيف إلزامي لتحقيق مزيد من الاستقلال الاستراتيجي، وهو مسار لم تختره تلك الدول بمحض إرادتها، وفي هذه اللحظة ومع محدودية التوقعات من واشنطن، فإن جميع اللاعبين الإقليميين يشعرون بالحاجة الملحة لحماية مصالحهم.

لقد كان الانسحاب المفاجئ للولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان بمثابة جرس إنذار لجميع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في المنطقة، حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد موجودة في كل مكان لتوفير الأمن في الشرق الأوسط، بل أنها وجهت تركيزها منذ إطلاق أوباما سياسة “محور آسيا” (Asia Pivot) على آسيا والمحيط الهادئ بدلا عن الشرق الأوسط، مما أدى بديهيًا بالجهات الإقليمية الفاعلة لأن تعمل معًا وأن تسعى لحفظ أمنها وبقائها.

وبالتالي، فإن الجهات الإقليمية الفاعلة في الشرق الأوسط لا تستطيع تحمل التورط في صراع جيوسياسي غير منتهٍ فيما بينها، خاصة وأن التهديد الإيراني قد بدأ يلوح في الأفق، حيث أن إيران قد صارت تهديدًا شائعًا بين حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية التقليديين سواء كان ذلك عبر قدرتها على التوسع الإقليمي في ضوء المحادثات النووية المتجددة مع الولايات المتحدة، أو عبر هجماتها الفعلية من خلال وكلائها في المنطقة، والتي كان أبرزها هجمات الحوثيين ضد الإمارات العربية المتحدة، والهجمات السابقة للناقلات في الخليج، والهجمات الصاروخية المستمرة على منشآت النفط السعودية.

وتعتبر الضغوط العالمية إحدى الفرص التي تقود موجة التطبيع التركية-الإسرائيلية، حيث أن التعدد في مصالح وأولويات بعض القوى الإقليمية مثل المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة -خاصة في حالات محددة مثل اليمن وأوبك وسد النهضة الإثيوبي وما إلى ذلك- والتي اعتادت منذ عام 2013م على التحرك بالتنسيق مع بعضها البعض ومع إسرائيل في جميع القضايا تقريبًا، قد فتح الكثير من الخيارات للجميع بحيث أنه لم يعد أي طرف رهينة لأي معسكر أو ائتلاف أو تحالف معين بعد الآن، وأصبحت خيارات “الخروج من الصندوق” مثل التوافق مع تركيا قابلة للتطبيق عند جميع الجهات الفاعلة.

ومع ذوبان الجليد في العلاقات بين قطر ومصر وبقية دول الخليج، وإرسال تركيا إشارات فاعلة تظهر الاهتمام بالتطبيع مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة، فإن البيئة الإقليمية قد أصبحت مواتية للتعاون عوضًا عن الاستمرار في الصراع.

إضافة إلى ذلك فقد وصلت الجهات الفاعلة المذكورة أعلاه خلال الجزء الأكبر من العقد الماضي إلى حدودها الطبيعية بسبب صراع الأذرع الناتج عن الصراع الجيوسياسي، والذي أظهر أنه مستهلك للموارد، ولا طائل من تصعيده، وأن الوقت قد حان للاستفادة من فرص التعاون بشكل أكبر.

سياسة بايدن الخارجية

إن اللامبالاة العامة التي أظهرتها إدارة بايدن إزاء حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية التقليديين مثل إسرائيل وتركيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر، واستعدادها في نفس الوقت للانخراط مع إيران في تجديد الاتفاق النووي قد أعاد شبح التوسع الإيراني على غرار ذلك الذي ظهر في ظل إدارة أوباما.

وبالتالي يبدو أن تركيا وإسرائيل والسعودية والإمارات قد نحوا خلافاتها جانبًا وأبدوا استعدادًا للتعاون في مواجهة هذا التهديد الإيراني الجريء والتوسعي والذي قد تتسامح معه إدارة بايدن.

إن بايدن يختلف اختلافًا صارخًا عن ترامب الذي سبق وأن أعطى تفويضًا مطلقًا للمشاريع العدوانية والتوسعية لـ “الديكتاتوريين المفضلين لديه” في الشرق الأوسط كتلك الموجودة في اليمن وليبيا، في حين لم يعد بايدن يتسامح أو يشجع “مفضلي ترامب” بعد الآن، مما أوجب على هؤلاء الديكتاتوريين الدفع باتجاه تحسين العلاقات، كما أن اتجاه بايدن التدخلي في الشؤون الخارجية-على عكس انعزالية ترامب- يقلص من حيز القوى الإقليمية للمناورة.

كان سحب إدارة بايدن دعمها من مشروع “EastMed” لحظة فاصلة لتطبيع العلاقات بين تركيا من جهة وإسرائيل ومصر من جهة أخرى، حيث كان المشروع سببًا للخلاف بين تركيا وإسرائيل ومصر بسبب إسهامات القبارصة اليونانيين واليونانيين، وقد سهل إدراك الطبيعة غير المجدية للمشروع سالف الذكر إيجاد بدائل أخرى أكثر جدوى مثل مشروع خط الأنابيب بين تركيا وإسرائيل ومصر.

التغيرات في السياسة الدولية

لقد كان لجائحة كوفيد-19 وأثرها على الاقتصاد العالمي انعكاسًا سلبيًا على كل الاقتصادات الوطنية، كما أن العالم  لم يتعافى من الاضطراب في سلاسل التوريد، وتشهد العديد من المناطق أزمات غذائية جزئية تجعل الأمن الغذائي مهما للغاية، وهو ما يجعل الصراعات الجيوسياسية ترفًا، خاصة في مناطق بعينها، ويجعل القدرة الاتصالية أكثر أهمية، ففي ظل المخاوف من هيمنة الصين على سلال التوريد، أضحىإيجاد البدائل أمرًا ملحًا.

وعلى سبيل المثال فإن التطبيع التركي-الإماراتي ينطوي على جانب واضح لتخفيف المشاكل الناجمة عن الجائحة، كما أنه ومع التوقعات لمزيد من الاستثمارات في الخدمات اللوجستية والزراعية والصحة والتصنيع فإن تركيا والإمارات تستعدان لركوب هذه الموجة بكفاءة، وبصورة شبيهة، فإن التطبيع التركي الإسرائيلي مناسب تماما للتعاون خاصة في الزراعة والطاقة ومجالات أخرى.

فوق ذلك، سيكون لمع تصاعد التوتر والمواجهة المتزايدة بين التحالف الغربي وروسيا حول أوكرانيا، تأثير حتمي على أمن الطاقة في أوروبا، وقد تم بالفعل تعليق مشروع “نورد ستريم 2″، وفي ظل هذه الأوضاع وإلى جانب إمدادات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة وقطر وكندا والجزائر وغاز خط الأنابيب من أذربيجان، فإن نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا سيكون قيما للغاية، وقد يعزز التعاون التركي الإسرائيلي المستقر وطويل الأجل.

إيران، القاسم المشترك؟

عادةً ما تتشكل التحالفات ضد تهديد محدد، وعلى الرغم من أنه من السابق لأوانه الحديث عن “تشكيل تحالف” بين تركيا وإسرائيل، إلا أن التوسع الإيراني في جميع أنحاء الشرق الأوسط وقدرة إيران على إلحاق الضرر بالجهات الإقليمية الفاعلة الأخرى من الخليج الفارسي وصولًا إلى إسرائيل، ومن اليمن حتى سوريا يجعلها مصدرًا مشتركا للقلق لكل من تركيا وإسرائيل، فإسرائيل لديها بالفعل روتين لاستهداف الوجود الإيراني في سوريا من خلال الغارات الجوية، كما أن أداء تركيا ضد الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا على مدى عقد من الزمان أمر لا جدال فيه.

إن تركيا هي الحصن الأكبر ضد التوسع والعدوان الإيراني في شمال العراق وشمال سوريا، وبالتالي فالمصلحة المشتركة في كبح التوسع الإيراني يمكن أن تحفز تركيا وإسرائيل نحو تعاون سريع وأكبر، حيث لا تستطيع إسرائيل مواجهة إيران من خلال التحالف مع الإمارات العربية المتحدة أو حتى المملكة العربية السعودية فقط، فدعم تركيا أمر بالغ الأهمية.

المخاطر والآفاق

لن يكون من الخطأ القول بإن كلا من أنقرة وتل أبيب بذلتا وقتهما لإصلاح العلاقات في الماضي، إلا أنه كان من الصعب للغاية تطبيع العلاقات في ظل قيادة نتنياهو ، إذ أن سياسات نتنياهو الاستفزازية والعدوانية كان من شأنها أن تقويض أي جهد التقارب على أي حال، ولذلك فقد كان التغيير في الحكومة الإسرائيلية فرصة اغتنمتها أنقرة جيدًا لدفع عملية التطبيع، وهو ما ساعد كلا الجانبين على كسر الجمود غير المرغوب فيه.

إن التطبيع ليس طريقًا خاليًا من العقبات، فالائتلاف الهش للحكومة الإسرائيلية يولد شكوكًا بشأن طول عمرها في السلطة، وهو ما يجعل الرئاسة الإسرائيلية محاورًا أكثر موثوقية للتخطيط طويل الأجل في العلاقات الثنائية، كما أن المكونات اليمينية في الحكومة الإسرائيلية والسياسات العدوانية والاستفزازية تجاه المسجد الأقصى والقدس الشرقية وغزة قد تُعرّض التطبيع بين تركيا وإسرائيل للخطر في المستقبل.

وعلى الرغم من هذه المخاطر فإن التطبيع بين تركيا وإسرائيل يمكن أن يعطي الأولوية للتركيز على القضايا والمجالات ذات الإمكانات الكبيرة بدلًا من التركيز على نقاط الخلاف، وبالفعل فإنه من الملاحظ تضاءل الخلافات بسبب الإمكانات الأكبر للتعاون في العديد من المجالات، لذا فإن التعامل مع كل ملف على حدة أمر سهل.

وفي هذا السياق يمكن أن يكون نقل الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا العمود الفقري لشراكة متينة، وفي أفضل السيناريوهات قد يعفي تطبيع العلاقات التركية-الإسرائيلية تركيا من اللوبي المناهض لها المكون من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس الأمريكي، والذي أدى دورًا تخريبيًا في العلاقات التركية-الأمريكية طيلة العقد الماضي.

تسميات