العراق.. فصل جديد من الإدارة بالأزمات

التحولات السياسية والأمنية المستمرة منذ فترة طويلة في العراق، قدمت تجربة كافية جعلت القوى السياسية تمتلك خبرة في إدارة البلاد بالصورة التي تضمن بقاءها في السلطة فقط، استطاعت بها صياغة نظام سياسي صانع للفوضى تستمد منه قوة الاستثمار في أزمات البلاد.

مرحلة سيطرة تنظيم داعش الإرهابي ثم المعارك التي قادها العراق والتحالف الدولي، وفرت الفرصة المثلى لعودة فواعل الأزمات الأمنية والاجتماعية، من خلال عودة مجاميع مسلحة لها ولاءات خارجية وممارسات طائفية إجرامية، وفساد إداري ومالي نخر البنية الاقتصادية.

جاءت مرحلة (ثورة تشرين) لتكسر روتين المشهد العراقي الذي ارتكز على استثمار الحروب الطائفية والتجاذبات السياسية، والتقلبات الاقتصادية. صور انتفاضة الشباب الثائر خلقت من حولها الدهشة، وأربكت النخبة السياسية العراقية، وحتى استطاعت أن تحجز حيزاً في الديناميكيات الإقليمية والدولية.

بينت مستشعرات إنذار الأزمة حجم وسرعة المخاطر والتهديدات القادمة تجاه النخبة الحاكمة، ما جعلها تعيد استخدام أدواتها العسكرية والاقتصادية في محاولة لإخضاع المتظاهرين والمجتمع الذي يقف معهم، واستخدام الحيل السياسية لامتصاص غضب الشارع بوعود إصلاحية أو محاولة سرقة الثورة وتشتيت اتجاهات التيار العام لقوة التظاهرات ومطالبها.

ويمكن اعتبار هذه الاستراتيجية وفق أدبيات علم إدارة الأزمات أنهاأزمة تلاعب”Manipulation crises”، حيث تهدف إلى اكتشاف كل طرف المدى الذي يمكن معه إجبار الطرف الآخر التخلي عن موقفه أو الاستجابة إلى مطالبه.

لذلك عولت القوى السياسية على عامل الزمن في إدارة الأزمة عن طريق فقدان الحركة الاحتجاجية زخمها ذاتياً.

لكن عامل الزمن أثبت زيادة في صلابة مجتمع التظاهرات وانضمام شرائح أوسع من المجتمع للحركة الاحتجاجية.

بعدها لجأت النخبة السياسية إلى استراتيجية تفعيل الإدارة بالأزمات الأمنية، وقتلت وجرحت المئات من شباب الثورة. ومثلت أحداث مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، فرصة أصبحت فيها قضية المواجهة مع الولايات المتحدة جزءاً من عملية استثمار الأزمة، ووفرت الغطاء بتفتيت الحركة الاحتجاجية والتخلص من ضغوطها.

تعتبر الإدارة بالأزمات وسيلة تغطية وتمويه على مشاكل الكيان الإداري أو السياسي، فنسيان مشكلة ما أو تأجيل حلها يتم بصناعة ازمة أكبر وأشد تأثيراً، بحيث تطغى على المشكلة القائمة. الأمر الذي يبقي كيان الدولة يتعرض لمجموعة متتالية من الأزمات قد تنتهي بتدميره بالكامل أو تركه في حالة عجز حادة.

وهذا ما فعلته الأحزاب السياسية المتنفذة في عمق الدولة، بالقيام بمجموعة من الإجراءات لإدارة ملفات البلاد بما يخدم مصالحها واستمرار بقائها وزيادة نفوذها.

ومن جملة هذه الإجراءات؛ استخدام الأزمات الاقتصادية التي أخذت منحنى تصاعدياً منذ 2014، بسبب حلول سلبية عكسية لا تعالج جذور الأزمة، بل تعالج أعراضها المؤقتة وتساهم في زيادة تعقيد وتراكب الأزمات.

ومع بداية جائحة كورونا، وما نجم عنها من انخفاض أسعار النفط عالمياً، استهل رئيس الحكومة المؤقتة مصطفى الكاظمي بقوله: “أستلِم المسؤولية بخزينة شبه خاوية”. وهذا يشير إلى أن النخبة الحاكمة بعد استقالة عادل عبد المهدي عمدت إلى تسليم مصطفى الكاظمي اقتصاد الدولة بحالة عجز كبيرة ومديونية مرهقة كما في موازنة عام 2021.

كما استطاعت هذه القوى استنساخ عوامل فشل رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي وتحويلها إلى حكومة مصطفى الكاظمي، من خلال تكثيف التحديات الاقتصادية والأمنية لتقدم الكاظمي ككبش فداء في حال عودة غضب الشارع واندلاع مظاهرات واسعة يطالب فيها العراقيون بتغيير الحكومة مرة أخرى، أو حصول خروقات أمنية كبيرة تُطِيح بمنصب رئيس الوزراء، وستعمل هذه القوى السياسية والعسكرية على استغلال الفوضى وملء الفراغ لإعادة تأكيد نفوذها وتسويق نفسها من جديد.

آخر هذه الإجراءات هو الاتفاق بين القوى السياسية على تأجيل موعد الانتخابات “المبكرة” إلى عدة أشهربالرغم من التأكيدات المتواصلة على إجرائها في موعدها المحددفي 6 يونيو/حزيران من هذا العام، لكن الإرادة السياسية المتنفذة استطاعتالالتفاف على مطالب ثورة تشرين التي كان من مطالبها إجراء انتخابات مبكرة.

كما شهدت العاصمة بغداد عودة لشبح التفجيرات الدموية في الأسواق الشعبية كما حصل في الأيام الماضية، الأمر الذي مارست من خلاله جيوش إلكترونية وقنوات فضائية حملات ترويج للاقتتال الطائفي والترهيب الأمني استثمارا لعودة عمليات داعش.

أما المجتمع الدولي فيتعامل مع أزمات العراق على أنها جزء من ملف أزمات “الشرق الأوسط” الذي ستبقى الرياح تلعب بأوراقه، وهي ريح فوضى لا يزال المجتمع الدولي يتمسك بھا ويجعل كل حل آخر مؤجلاً.

الفواعل الإقليمية الموجودة في العراق لا تمتلك خطة بعيدة المدى، باستثناء إيران، لذا كانت الاستراتيجية الإيرانية ونفوذها في العراق تراهن على خسارة ترمب وفوز بايدن في انتظار تحول في السياسة الأمريكية في المنطقة، وقد كانت محقة في رهانها.

وتستخدم إيران الإدارة بالأزمات كأسلوب لتنفيذ استراتيجيتها الكبرى في الهيمنة والسيطرة على مجالها الاستراتيجي ولتأكيد قوتها، وفرض إرادتها على المجتمعات وبسط النفوذ، بشكل لا يفقدها أصدقاءها، ولتحييد أعدائها وتدمير مصالحهم، وفي الوقت ذاته لتقوية تحالفاتها التقليدية.

ختاماً، هناك علاقة تفاعلية بين الأزمات الوطنية، واستقرار النظام السياسي في البلد، فكلما كان النظام السياسي على درجة عالية نسبياً من الإدراك الذاتي لحقائقه، والكيفية التي تتفاعل بها وتتغير بها، أصبح بالإمكان أن يأخذ في الحسبان الأزمة بصورة مسبقة، بما يتناسب لها من إجراءات واستراتيجيات وقائية. وفي حالة عدم وجود هذا الإدراك تصبح هذه الأزمات صدمات عنيفة لها تأثيرات مدمرة على توازن النظام السياسي وربما بنية الدولة بشكل أعمق.

تسميات