الدبلوماسية الإنسانية في أفريقيا: تركيا وكوريا الجنوبية

تختلف مقاربتي كل من تركيا وكوريا الجنوبية نحو المناطق النامية مثل أفريقيا عن مقاربات بقية اللاعبين الدوليين. فلدى تركيا مقاربة إيجابية إلى حد بعيد تجاه القارة، حيث ترتكز على تقديم المساعدات الإنسانية، وتطوير العلاقات بصورة متبادلة، وتنفيذ المشروعات المشتركة، وتعميم الحصول على فرص للتعليم، وتحقيق التنمية الاقتصادية. بالمثل، لدى كوريا الجنوبية سياسة نحو أفريقيا تم إنشاؤها على أسس مشابهة. يقدم هذا التشابه بين السياسات التي يتبعها البلدان في عموم القارة فرصاً للطرفين من أجل التعاون.

لم تنل البلدان الأفريقية التي جرى اقتسامها واستعمارها من قبل الدول الأوروبية استقلالها -على الأقل رسمياً – سوى مع منتصف القرن العشرين. وقد واجهت البلدان الأفريقية العديد من المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عقب نيلها استقلالها، ولكنها لم تتمكن من تحقيق أي نجاح حقيقي في حل تلك المشاكل إلى يومنا هذا. تقف عدة أسباب وراء هذا الفشل، حيث شكّل تكرر الانقلابات العسكرية والاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي امتدت لفترات طويلة حجر عثرة أمام تحقيق النمو في تلك البلدان.

إن النهج ما بعد الاستعماري، الاستعلائي، الإملائي الذي تبنته الدول الغربية في علاقاتها مع دول أفريقيا في مرحلة ما بعد الاستقلال جلب في إثره نوع من التبعية في العلاقات بين الغرب وأفريقيا. لم تنجح العديد من الدول الأفريقية في الخلاص من الفقر، بالرغم من القروض والمساعدات والمنح التي قدمتها المؤسسات المالية الدولية، كما أنها لم تستطع أن تتخلص من براثن الصراع العرقي أو الحروب الأهلية.

القارة يقطنها 422 مليون شخص تحت خط الفقر، وأكثر من 600 مليون شخص لا يتوفر لديه وصول إلى الطاقة الكهربية، وما يقرب من 783 مليون شخص لا يمكنه الحصول على المياه النظيفة، لذا تحتاج القارة إلى المساعدة لتوفير السلع الغذائية الأساسية.

تحتاج الدول الأفريقية إلى استثمارات في البنية التحتية تتراوح بين 130 إلى 170 مليار دولار سنوياً لحل تلك المشاكل المزمنة، ولكنها لا تستطيع الحصول على الاستثمارات الأجنبية بالمستوى المطلوب، بسبب المناخ الذي تسيطر عليه الاضطرابات الداخلية.

إن أفريقيا التي تحمل “أعباء الرجل الأبيض” منذ ستة قرون هي منطقة يخوض فيها اللاعبون الدوليون -كما كان الحال في الماضي- صراعاً محموماً من أجل الحصول على الموارد الطبيعية، والبحث عن أسواق جديدة، وضمان النفوذ السياسي. في المراحل الأولى من عملية استعمار القارة انتقل الأفارقة إلى خارج القارة كقوى عاملة رخيصة، فيما نُقلت موارد المنطقة الطبيعية إلى البلاد الغربية عقب الثورة الصناعية. فعقب شروع تجارة العبيد عبر الأطلنطي كان نقل القوى العاملة الأفريقية إلى أمريكا الشمالية أحد الاعتبارات المخفضة للتكاليف التي فضلتها المجموعات الرأسمالية العالمية. خاضت الدول الأوروبية عملية التحول إلى مجتمع صناعي بفضل الروابط التجارية التي أنشأتها، وقد أمن نقل الموارد الاقتصادية إليها خفض التكاليف الذي كانت بحاجة إليه.

أما عن العلاقات الإنسانية الطبقية التي خلقها النظام الاستعماري الذي أسسته القوى الأوروبية الكبرى سياسياً واقتصادياً، فقد عاملت الأفارقة معاملة المواطن من الدرجة الثانية. فالقوى الاستعمارية الغربية التي أقامت المؤسسات السياسية وفرضت نمطها الخاص من العلاقات الثقافية، وبسطت سيطرتها على طرق التجارة، وقدمت نمط عيشها باعتباره “التقدم الحضاري” وشجعت على التنكر للجذو التاريخية المحلية أضحت صاحبة الكلمة في ماضي القارة ومستقبلها.

أما دول أفريقيا، فقد ناضلت على مدار القرنين الأخيرين من أجل نيل الاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتسعى اليوم للنهوض من تحت الأثقال التاريخية التي جلبتها علاقات التبعية للغرب. وفي سياق هذه النهضة، تلفت مكانة تركيا وكوريا الجنوبية في القارة الانتباه كبدائل غير غربية.

أفريقيا ونمر شرق أسيا

شكلت شبه الجزيرة الكورية مسرحاً لنزاع منهك عقب الحرب العالمية الثانية، وهي اليوم منطقة تحكمها أيدولوجيتان مختلفتان. تمتلك كوريا الجنوبية التي تعتبر أحد شطري شبه الجزيرة إمكانيات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية أكثر تقدماً، مقارنة بجارتها الشمالية. ويوفر التفاوت الاقتصادي الحالي الإمكانيات لكوريا الجنوبية لتطوير علاقاتها بصورة أسهل مع المناطق والدول الأخرى. ساهمت هذه التسهيلات في إنشاء المنتدى الأفريقي- الكوري الجنوبي، كما تكاملت اليوم مع العلاقات التجارية. علاوة على ذلك؛ توطدت عملية الانفتاح على أفريقيا من خلال مقاربة “كوريا العالمية” بالتوازي مع التحول الذي شهدته العلاقات الخارجية في القرن الحادي والعشرين، كما تبرز كوريا الجنوبية في مجالات الطاقة والتجارة الخارجية والدبلوماسية. لقد قدم تلاشي مسلمات الحرب الباردة من السياسة الدولية الفرصة لكوريا الجنوبية للانفتاح على مناطق مختلفة من العالم.

تزايدت أهمية العلاقات الدبلوماسية مع تمدد الصادرات إلى مناطق جديدة، فيما اكتسبت واردات الطاقة أهمية أكثر حساسية. تأمن كوريا الجنوبية احتياجاتها من الطاقة من الخارج، شأنها في ذلك شأن العديد من الدول. وتعاني كوريا الجنوبية من الاعتمادية على الخارج بصورة كبيرة، كاقتصاد محروم من الموارد الطبيعية التي تجعله مكتفياً ذاتياً. تكسب هذه الاعتمادية العلاقات الخارجية أهمية أكثر، فيما تتحول إلى عنصر يرفع من إمكانيات تصدير الدول الأفريقية للطاقة. حيث تحظي المناطق الغنية بالموارد الطبيعية مثل أفريقيا بأهمية بالغة بالنسبة لكوريا الجنوبية التي تسيطر على 2.2% من الاستهلاك العالمي للفحم، و11.5% من واردات الغاز الطبيعي و3.3% من النفط العالمي. ولو أن كوريا الجنوبية تأمن جزء كبير من وارداتها من الطاقة عبر موردين غير أفريقيين، إلا أن لديها القدرة على الاتجاه إلى مصادر متنوعة للطاقة.

خلال فترة العشرين عام الأخيرة حققت كوريا الجنوبية واردات طاقة -وفي القلب منها الموارد الطبيعية والمعادن- من أفريقيا بمقدار 63.4 مليار دولار، كما ساهمت في رفع حجم التجارة الخارجية في المنطقة إلى 20 مليار دولار تقريباً. تمثل منتجات الطاقة جزءاً كبيراً من الواردات، فيما يبدو أن القطاعات المنتجة للتكنولوجيا يتم تفضيلها في الصادرات. يسري هذا الأمر على العديد من الدول التي تقوم بالتجارة مع أفريقيا. ولكن ما يميز كوريا الجنوبية عن غيرها هو أنها تولي أهمية خاصة للقارة ليس فقط في مجال التجارة الخارجية بل في الدبلوماسية كذلك. ويمكن رؤية أهمية كوريا الجنوبية بالنسبة لأفريقيا بصورة واضحة في المساعدات التي قدمتها للمنطقة خلال فترة جائحة كوفيد-19. إذ ساهمت المشافي التي مولتها أو أنشأتها كوريا الجنوبية بنفسها في تطوير البنية التحتية الصحية للعديد من البلدان الأفريقية.

طورت كوريا الجنوبية علاقاتها من نواحي عدة مع دول أفريقيا مثل أوغندا وموزمبيق وتنزانيا وساحل العاج وأثيوبيا وكينيا وغانا وجنوب أفريقيا، وهي تعتزم في ذلك خفض نفوذ كوريا الشمالية في المنطقة من ناحية أخرى. فكوريا الجنوبية المنزعجة من العلاقات التي طورتها كوريا الشمالية مع دول المنطقة عبر نقل تكنولوجيا السلاح تسعى لإقامة حوار مع دول أفريقيا على أساسات أكثر إيجابية مثل التجارة والتنمية الاقتصادية. وتساهم تلك العلاقات الثنائية ومتعددة الأطراف التي تمت إقامتها مع دول القارة في تبنيها نموذج التنمية الكوري، كما تكسب التجارة الخارجية المزيد من السرعة.

علاوة على ذلك؛ ساهم تقديم كوريا الجنوبية الدعم المالي للدول الأفريقية وتزايد المساعدات الاقتصادية بصورة سنوية في تطوير العلاقات بين القارة والنمر الأسيوي. من الملاحظ أن كوريا الجنوبية التي قدمت مساعدات للدول الأفريقية تُقدر بمليار دولار خلال العشرين عاماً الأخيرة، تريد أن تأخذ حصتها من هذا التطور التجاري الناشئ. على سبيل المثال، من المعروف أن شركة سامسونغ التي دخلت سوق الهواتف الذكية الأفريقي عام 2016 بلغت قيمة مبيعاتها 15.5 مليار دولار. كما عقدت كوريا الجنوبية اتفاق بقيمة 140 مليون دولار مع الحكومة الرواندية لتطوير البنية التحتية لشبكات الجيل الرابع، فوق ذلك، تمكنت أكبر شركات الاتصالات الكورية KT CORP من توفير الاتصال بالإنترنت ل 1.4 مليون شخص في البلاد. بالمثل، تحتل شركة Lotte التي تقوم بالاستثمار في قطاع الأغذية في كينيا موقعاً هاماً بين الشركات الكورية الكبرى الهامة. علاوة على ذلك، قامت كوريا الجنوبية باستئجار أراضي زراعية واسعة في مدغشقر تصل إلى 1.3 مليون متر مربع، الأمر الذي يشير إلى الأهمية التي تعنيها القارة بالنسبة لحكومة سيول.

وقعت كوريا الجنوبية اتفاقاً لإقامة منشأة إنتاج طاقة تبلغ قيمتها 1.3 مليار دولار في كينيا، كما أنشأت خط سكة حديدي بقيمة 82 مليون دولار في أثيوبيا.  كما أن شركة Daewoo التي تعد إحدى أكبر الشركات الكورية الجنوبية تقوم على إدارة مشروع إقامة منشأة لإنتاج الفحم يبلغ قيمته 1.8 مليار دولار في المغرب.

أضحى من الواضح أن العلاقات الكورية الأفريقية التي تقدمت على أسس دبلوماسية وسياسية واقتصادية قد وصلت إلى مستويات جيدة في عدة مجالات. إلا أن كوريا الجنوبية لازالت تحتاج إلى التعاون مع دول مختلفة في أفريقيا التي ينشط فيها العديد من اللاعبين مثل الصين وإنكلترا وفرنسا وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية. تأتي تركيا والولايات المتحدة الأمريكية على رأس اللاعبين الذين تحتاج إليهم كوريا الجنوبية، وتبدو مكانة البلدين مناسبة أكثر في موضوع التعاون مقارنة باللاعبين الآخرين، لأن كوريا الجنوبية التي تمتلك علاقات طيبة مع كلا البلدين تمارس أنشطتها في القارة في مجالي الاقتصاد والدبلوماسية فقط. لهذا السبب، يمكن أن يساهم التعاون مع الولايات المتحدة وتركيا في تطور العلاقات الكورية الأفريقية أسرع.

كوريا الجنوبية ومقاربة تركيا تجاه أفريقيا

تقع تركيا على تقاطع قارات العالم القديم أفريقيا وأسيا وأوروبا، وقد اتبعت سياسة خارجية غربية المحور عموماً عقب الحرب العالمية الثانية. وقد قرأت تركيا محيطها الجغرافي بنظرة غربية الجذور، وشكلت سياستها تجاه أفريقيا حتى بداية الألفينيات في ضوء هذا المنظور. ولكن هذه المقاربة بدأت في التغير بدءاً من بداية العقد الأول من الألفينيات، وأصبحت تركيا تنظر إلى أفريقيا من منظورها الخاص. وقد ضمن هذا التغيير دمج الميراث السياسي والثقافي في سياسة استراتيجية واحدة. كما ساهمت شبكة العلاقات الدبلوماسية التي أقامتها تركيا عبر سفاراتها بالخارج في توسيع مجالها السياسي والاقتصادي كانعكاس للسياسة الاستراتيجية الحالية. ساعدت العلاقات الاقتصادية المتطورة في تدفق الاستثمارات التركية إلى أفريقيا، فيما تطورت التجارة الخارجية أيضاً. بالنسبة للدول الأفريقية التي تفتقر إلى البنية التحتية المادية اللازمة، تهدف المساعدات والاستثمارات التي تقدمها تركيا إلى المنطقة إلى خدمة مصالح كلا الطرفين على النقيض مما تقوم به الدول الغربية.

تظهر القارة الأفريقية التي توجد بها بعض الأراضي التي سيطرت عليها الدولة العثمانية على مدار قرون أن التطور ممكن إذا ما تم تبني المقاربة الصحيحة كما هو الحال في مثال الصومال.

إن 28 دولة أفريقية من أصل 54 دولة هي دول أعضاء في منظمة التعاون الإسلامي. يمكن هذا الوضع تركيا من تشكيل العديد من النقاط المشتركة، بالمعنى الديني والثقافي والاجتماعي، ويمهد الأرضية لتأسيس علاقات جيدة بالدول الأفريقية. بماضيها الاستعماري، وتاريخ نضالها ضد العبودية، وفقرها المتواصل، وحاجتها إلى استثمارات البنية التحتية، تقدم أفريقيا اليوم فرصاً جديدة إلى تركيا. تتوقف استفادة كافة الأطراف بصورة متساوية من الفرص التي تقدمها المنطقة على التحرك في إطار من التعاون المتبادل. من هذه الناحية، سيجلب تحرك كوريا الجنوبية وتركيا سوياً في أفريقيا، أو تنفيذهم مشاريع مشتركة في مجالات مختلفة فوائد أكثر للأطراف الثلاثة. تساهم المشروعات التي يتم تطويرها بصفة مشتركة والحوار مع الحكومات المحلية ونقل التكنولوجيا وتطوير البنية التحتية للتعليم والصحة في التنمية الاقتصادية للقارة، ومن الأكيد ستأخذ كل الأطراف نصيبها من الفرص الناشئة عن ذلك. على هذا النحو، قد يتم الترحيب بتركيا وكوريا الجنوبية أكثر في أفريقيا مقارنة باللاعبين الآخرين الموجودين في المنطقة، وتتمكنا من تطوير علاقاتهما بأفريقيا في كافة المجالات.

هل تعتبر الدبلوماسية الإنسانية فرصة للتنمية؟

تختلف مقاربتي كل من تركيا وكوريا الجنوبية نحو المناطق النامية مثل أفريقيا عن مقاربات بقية اللاعبين. فلدى تركيا مقاربة إيجابية إلى حد بعيد تجاه القارة، حيث ترتكز على تقديم المساعدات الإنسانية، وتطوير العلاقات بصورة متبادلة، وتنفيذ المشروعات المشتركة، وتعميم الحصول على فرص للتعليم، وتحقيق التنمية الاقتصادية.

بالمثل، لدى كوريا الجنوبية سياسة نحو أفريقيا تم إنشاؤها على أسس مشابهة. يقدم هذا التشابه بين السياسات التي يتبعها البلدان في عموم القارة فرصاً للأطراف من أجل التعاون. ويتوقف حسن استغلال تلك الفرص الناشئة على المسار التاريخي للعلاقات بين البلدين. فنشاط اللاعبين الدوليين مثل روسيا والاتحاد الأوروبي والهند والصين -على وجه الخصوص- اقتصادياً ودبلوماسياً وسياسياً أسفر عن مناخ من التنافس، وتتأثر الدول الأفريقية بالسلب من مناخ التنافس هذا، كما تتحول التبعية من طرف واحد إلى مرض مزمن.

ختاماً، إن التحرك المشترك لقوتين لا تمتلكان ماضياً استعمارياً مثل تركيا وكوريا الجنوبية في ظل مناخ التنافس الحالي سيحقق المزيد من المصالح لأفريقيا وحكومتي أنقرة وسيول.

تسميات