معاداة الإسلام كأداة للسياسة الخارجية

تنبع حاجة الغرب إلى مسألة إسلامية من عدة أسباب. فالموارد الاستعمارية الأوروبية في تناقص، الأوروبيون يخسرون القوة في كل المجالات أمام الصين والهند وروسيا، وفرنسا التي تسعى للتحرك كذراع ميداني للاتحاد الأوروبي هُزمت في ليبيا وسوريا وأذربيجان. كما انخرطت أوروبا في مسعى ملء فراغ القوة السياسية الذي تركته الولايات المتحدة خلفها، ولكنها عجزت أمام تركيا وروسيا. فضلاً عن ذلك، أنتجت الاحتلالات التي تورط فيها الغرب في الشرق الأوسط، بغية جلب الديموقراطية المزعومة إرهاباً، وامتدت هذه الموجة من الإرهاب إلى أوروبا.

تقوم أوروبا تحت قيادة ماكرون بتفعيل سلسلة من الإجراءات التي يمكن أن تُعتبَر معادية للإسلام. علاوةً على ذلك، لم يكن ماكرون هو الوحيد، إذ أعلن رئيس الوزراء النمساوي كورتز والمستشارة الألمانية ميركل أيضاً عن تفعيل “خطة مكافحة الإسلام السياسي” على مستوى أوروبا. كان كورتز قد اعتبر المسلمين مصدراً لكل مشاكل أوروبا، بدءاً من الأمن إلى الصحة، متهماً ذوي الأصول المهاجرة بجلب فيروس كورونا من بلدانهم ونشره في أوروبا. يُقدَّم المسلمون اليوم ككبش فداء لمشاكل أوروبا السياسية والاقتصادية والأمنية، تماماً كما فُعل باليهود في الماضي.

يُوضع التمييز والكراهية ضد المسلمين في أوروبا في إطار قانوني مقبول تحت مسمى “مواجهة الإسلام السياسي”. ففيما تعتبر النمسا “الإسلام السياسي” جريمةً، يتجلى أن هذه “التهمة المعلبة” الجديدة ستؤدي دور “السكين السويسري” متعدد الوظائف الذي سيتم استخدامه من أجل تصفية المسلمين واقصاءهم. ذلك أنَّ معنى هذا المفهوم محل خلاف. ولكن بالنظر إلى القيود التي يتم فرضها تحت مسمى مكافحة الإسلام السياسي، يتضح لنا أنها تستهدف الممارسات اليومية المعتادة للمسلمين العاديين، وروابطهم الهوياتية ببلادهم الأصلية. فضلاً عن ذلك؛ في فرنسا، وإلى جانب حظر الحجاب الساري منذ عام 2004، تم تفتيش 76 مسجداً في فرنسا في إطار مكافحة التطرف. ويُتوقع أن تلحق العشرات من الجوامع ب 43 جامعاً جرى إغلاقه منذ قدوم ماكرون إلى منصبه إلى الآن. إضافة إلى ذلك؛ اتهم ماكرون المسلمين لأول مرة ب “الانفصالية”، مساوياً إياهم بالإرهابيين، كما يعمل على إجبارهم على التوقيع على “ميثاق الالتزام بقيم الجمهورية”. ماكرون الذي منح الجمعيات المسلمة مهلة أسبوعين للتوقيع على الميثاق بدا وكأنه يقوم بتقسيم المجتمع الفرنسي، قائلاً:

“سيوقع البعض على الميثاق، سنتعاون مع هؤلاء، لن يوقع البعض، سنعرف حينها من يقف في صف الجمهورية ومن يقف ضدها.”

الغريب في الأمر هو أن المسلمين في فرنسا لم يطالبوا بأي انفصال أو انعزال، مسلح كان أو غير مسلح. ماكرون لا يكتفي بتقسيم مجتمعه، بل يسعى كذلك لوضع العالم الإسلامي في مواجهة ثقافية صورية مع أوروبا.

وحتى إن تم تبرير تلك القيود بالهجمات الإرهابية، فالملاحظ أن تعريف “الإسلام السياسي” يستهدف المسلمين الذي يتحركون في إطار قانوني، بدلاً من المنظمات الإرهابية مثل داعش والقاعدة.

لماذا احتاجت أوروبا إلى “المسألة الإسلامية”؟

لماذا تحتاج أوروبا إلى “مسألة إسلامية” جديدة بينما تختنق هي سياسياً باليمين واليسار المتطرفَيْن، واقتصادياً بوباء كوفيد-19 وتداعياته؟ فضلاً عن ذلك، من الواضح أن تلك المسألة تستند إلى تصورات وقصص مُختلقة أكثر من الحقائق المجردة.

لا يرى الساسة الأوروبيون الحركات اليمينية المتطرفة التي تستجوب شرعية النظام من جذوره، ولا المجموعات المتمردة التي تعارض التدابير الوقائية المتخذة ضد وباء كوفيد-19 وتتهم الدولة بتقييد الحقوق والحريات كتهديد، بل يرون التهديد في المجتمعات المسلمة التي تعيش في سلام منذ عشرات السنين.

من الواضح أننا نتجه سريعاً نحو مناخ من الصراع.  ولكن من الواضح أن أحد جوانب هذا الصراع يعني أكثر بكثير من مجرد صراع ثقافات أو قيم مدفوع بسعي محموم لإصلاح الإسلام. ذلك أنه لا يوجد كل متكامل يُدْعَى القيم الأوروبية؛

في أوروبا توجد بنية فكرية سادت في الفترة التي أعقبت جيل 68، تضع اللذة والحرية المطلقة في مركز اهتماماتها، في مقابلها توجد بنية فكرية وضعت أسسها المجموعات التي تتبني الهوية الأوروبية التقليدية المستندة في أحد جانبيها إلى الثقافة المسيحية، وفي جانبها الآخر إلى العقل التنويري. وتأتي الاعتراضات على قضايا مثل الإجهاض والمثلية الجنسية والقساوسة النساء من هذه الأجنحة، قبل أن تأتي من المسلمين بكثير. ولكن حتى وإن كان اللاوعي الخاص بأوروبا اليوم مسيحي، فيجب أن نفهم جيداً أن انعكاساته المعادية للإسلام هي ردود فعل حضارة وثنية نبذت الإله من مركز اهتماماتها.

تنبع حاجة الغرب إلى مسألة إسلامية من عدة أسباب. فالموارد الاستعمارية الأوروبية في تناقص، الأوروبيون يخسرون القوة في كل المجالات أمام الصين والهند وروسيا، وفرنسا التي تسعى للتحرك كذراع ميداني للاتحاد الأوروبي هُزمت في ليبيا وسوريا وأذربيجان.  كما انخرطت أوروبا في مسعى ملء فراغ القوة السياسية الذي تركته الولايات المتحدة خلفها، ولكنها عجزت أمام تركيا وروسيا. فضلاً عن ذلك، أنتجت الاحتلالات التي تورط فيها الغرب في الشرق الأوسط، بغية جلب الديموقراطية المزعومة إرهاباً، وامتدت هذه الموجة من الإرهاب إلى أوروبا.

أوروبا أيضاً لم تعد تمتلك الرفاهية والترف القديمَين. فمع تنامي الخلل الاقتصادي والبطالة وجائحة كوفيد-19، رأى الناس أن ما وعدهم به النظام الليبرالي من حرية ومساواة اجتماعية -وليس الرفاهية الاقتصادية فحسب- ليست سوى وعود فارغة. ويسعى الساسة الأوروبيون، عبر تصريف هذا الاستياء الموجود بالداخل باتجاه المسلمين، إلى تحويل الانتباه عن الإخفاقات الداخلية من ناحية، وشرعنة مشروعاتهم العسكرية في السياسة الخارجية من ناحية أخرى. وفي هذا السياق؛ تحل أوروبا التي تفرض “ديناً وهويةً جديدة” على المسلمين محل الولايات المتحدة الأمريكية التي احتلت البلدان الإسلامية بدعوى تصدير “الديموقراطية” لها.

المعاداة المؤسسية الإسلام

تواجه أوروبا أزمة هيكلية بالغة، تصاحبها أزمات اقتصادية وهوياتية للأفراد الأوروبيين. الأكثر من ذلك هو أن قيم الحرية والديموقراطية التي سلطتها أوروبا كسيف ديموقليس على رقاب البلاد الأخرى يتم امتحانها اليوم أمام الأقليات المسلمة في أوروبا.

قامت أوروبا بتعليق – فيما عدا بعض الحالات الصورية -حق اللجوء الذي يعد أكبر الحقوق والقيم الأوروبية. ومن الواضح أن الدور سيأتي على حرية الدين والتعبير. إن النظام السائد في أوروبا لا ينتظر من المسلمين أداءً تعليمياً، لغوياً، عملياً أفضل، بل يريد منهم اظهار تكيفهم ثقافياً.

عندما يتعلق الأمر بالمسلمين، يجري توضيح الميول نحو العنف والتطرف النابعة من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المرصودة في أوروبا، من خلال الدين والثقافة، على نحو مباشر. على أن السير الذاتية لمرتكبي تلك الأعمال الإرهابية تشير إلى قصص حياة أشخاص انصرفوا عن الدين وفشلوا في التشبث بالمجتمع.

إن الاستياء والتمييز المرصودَين في أوروبا في الفترة الأخيرة تجاه المسلمين ليسا جديدَين، ولكنهما دخلا الآن طوراً “مؤسسياً”. لأجل ذلك، أولاً، ستتم تصفية المؤسسات القديمة التي أسسها المسلمون الأوروبيون، وتوجد لديها صلة ببلدانهم الأصلية، لتقام بدلاً منها مؤسسات جديدة. وبالفعل قد نشأت “جوامع” بلا جماعة، تستمد شرعيتها من نفسها ويؤمها أئمة شواذ جنسياً أو نساء.

من ناحية أخرى؛ هناك سعي محموم لشيطنة وتضييق الخناق على الدول التي تخوض صراع مصالح مع أوروبا في ليبيا وشرق المتوسط مثل تركيا، من خلال معاداة الإسلام ومعاداة الأتراك.

يجب أن يُفهم جيداً أن معاداة الإسلام في أوروبا أضحت تدريجياً قضية سياسة خارجية، وأن الساسة الأوروبيون يسعون للتغطية على بعض المصالح السياسية والجيوسياسية بحروب القيم والثقافة.

تسميات