لا حل بدون تركيا

لقد طورت تركيا نمط إدارة يحول الصراعات التي ظهرت أمامها في الأعوام الأخيرة كـ “تحديات” إلى “فرص”. وبقيادة حازمة قوية، حولت القيود إلى إمكانيات جديدة. وحققت تواجداً على الأرض، فأخذت مكانها على طاولة المفاوضات.

ألقى الرئيس أردوغان كلمة شاملة بالأمس، في افتتاح السنة التشريعية الجديدة لمجلس الأمة التركي الكبير، لخص فيها مكانة تركيا الدولية، والثوابت الرئيسية لسياستها الخارجية، ووجه انتقادات وتقدم باقتراحات بالنسبة لمجرى السياسة الدولية، ومناطق الصراع. كانت الرسالة الرئيسة للكلمة هي أن تركيا دولة لا تخشى أبداً من النضال والتنافس، لكنها دائماً ما كانت ساعية للسلام والتعاون.

فيما أكد الرئيس على ثقة تركيا بنفسها، مسلطاً الضوء على مباحث رئيسة مثل مجلس الأمة البطل، ومئوية الجمهورية التركية، و2200 عام من أعراف وتقاليد الدولة.

وقد كان شرق المتوسط وسوريا والعراق وناغورني قره باغ والخليج وإسرائيل هي المواضيع التي أولاها الرئيس أهمية في سياق السياسة الخارجية.

أردوغان الذي كرر دعمنا لأذربيجان، ربط بين ازدحام جدول أعمال تركيا في الأعوام الأخيرة وأمرين؛ الأول هو المقاومة التي تتعرض لها القفزات الديموقراطية والاقتصادية لتركيا في الداخل والخارج، والثاني هو وصول النظام الدولي إلى مفترق طرق جديد. وانطلاقاً من هذه النقطة؛ أكد أردوغان أن “تركيا تقع في مركز أكثر منطقة تشهد أزمات دولية”، وأنه سيسعى إلى “إقامة نظام حكم عالمي عادل”.

أن تكون في مركز منطقة الأزمات هو وضع صعب. وهذا ما يدفع تركيا إلى تطوير قدرات جديدة، وملء الفراغات الناشئة في منطقتها.

لابد أن ندرك أنه لا يمكن مواجهة التداعيات السلبية الناتجة عن فراغ القوة الموجود في المنطقة من حولنا، عبر الاستناد إلى أي محور من المحاور.

إن الداعين إلى عدم التوتر مع الولايات المتحدة الامريكية والناتو أو الاتحاد الأوروبي، أو الداعين إلى إقامة محور جديد مع روسيا والصين وإيران لا يستطيعون قراءة معادلات القوة الجديدة للعالم.

أما من يقولون إن “تركيا أضحت وحيدة” أو أن “أنقرة انشقت عن الغرب، لذا عليها أن تنسجم مع محور طهران-موسكو”؛ فهم مصابون بالسذاجة نفسها. فسياسة المعسكرات أو المحاور تستحوذ عليها سياسة القوى الكبرى التي تمزج بين “التنافس والتعاون” في الوقت نفسه. فنحن في حالة تنافس وتعاون، في الوقت نفسه، مع روسيا وإيران والولايات المتحدة في سوريا. والأمر نفسه يسري على روسيا وفرنسا ومصر في ليبيا. وفي مسألة ناغورني قره باغ علينا ألا نواجه روسيا بشكل مباشر، ولكن الواقع يقول إن هناك مصارعة أيدي غامضة تدور هناك.

وهذه هي الصيغة الجديدة للعبة القوة: التنافس والتعاون معاً.

لقد طورت تركيا نمط إدارة يحول الصراعات التي ظهرت أمامها في الأعوام الأخيرة كـ “تحديات” إلى “فرص”. وبقيادة حازمة قوية، حولت القيود إلى إمكانيات جديدة. وحققت تواجداً على الأرض، فأخذت مكانها على طاولة المفاوضات.

استغلت تركيا حمل الأعباء التي جلبتها منطقتها من أجل تعزيز قوتها الوطنية. فإلى جانب الحرب على الإرهاب واستضافة اللاجئين وتقديم المساعدات الإنسانية؛ استنفرت تركيا قوتها الخشنة من أجل الحفاظ على الاستقرار. وهنا يجب تذكر نماذج الصومال وقطر وليبيا.

بكل تأكيد، لا تتحمل أنقرة مسئولية اندلاع الصراعات، أو التوترات المذكورة، بدءاً من سوريا إلى ليبيا، ومن شرق المتوسط إلى الخليج وناغورني قره باغ. ولكن تركيا المضطرة للتدخل في هذه الأزمات سالفة الذكر من أجل حماية أمنها القومي أصبحت من بين أكثر القوى المؤثرة التي تحدد مستقبل هذه الأزمات.

لقد أقنع أردوغان قادة العالم الذين يقابلهم بحقيقة أن “هذه المشاكل لن تُحل بدون تركيا“. ترامب وبوتين وميركل وماكرون أصبحوا مدركين لهذا الواقع.

في الفترة الأخيرة تتعرض تركيا للانتقاد بسبب استخدامها قوتها العسكرية. في حين أنه بالرغم من امتلاك تركيا أطول شريط حدودي مع سوريا، واستضافتها 4 مليون سوري، إلا أنها كانت أخر المتدخلين عسكرياً في سوريا. فأنقرة لم تكن لتغض الطرف عن منح تنظيمي “بي كا كا” و”يه بي جي” دولة إرهابية على طول حدودها. ولهذا توترت علاقات تركيا، أولاً مع الولايات المتحدة وإيران وروسيا، ثم أنتجت فيما بعد سياسة تتضمن التعاون والتنافس في الوقت نفسه.

بنفس الشكل؛ تدخلت تركيا في ليبيا عندما كانت حكومة السراج المدعومة أممياً على شفا السقوط، بناءً على طلب منها. ولم تكتف بحماية مصالحها المتعلقة بمجالات الصلاحية البحرية، بل ساهمت في ضمان السلام والاستقرار في ليبيا.

وصلت المطالب اليونانية والجنوب قبرصية الجامحة منذ عام 2003 شرقي المتوسط إلى نقطة استبعاد تركيا، فاستنفرت تركيا اسطولها ومقترحها للحل، من أجل كسر هذا الاستبعاد غير المقبول. وتعتبر هذه المقاربة بمثابة رد على فراغ القوة الناشئ في المنطقة من حولنا.

لقد ترسخت الحقيقة التالية في العديد من ميادين الأزمات:

“لن يكون هناك حل دون وجود تركيا على طاولة المفاوضات”.

تسميات