تقدير موقف: سياسة تركيا تجاه ليبيا بعد الثورة : المنعطفات والمخاطر

• كيف تشكلت سياسة أنقرة تجاه ليبيا في أعقاب الثورة ؟ • ما الأخطار التي تنتظر تركيا من منظور المقومات الدولية و المحلية للأزمة ؟ • ما الصورة التي تعكسها التحالفات الداخلية في ليبيا؟ وممن تتكون تلك التحالفات ؟

قام فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية الشرعية والمعترف بها من الأمم المتحدة بالتوقيع على مذكرة تفاهم لمعاهدة للتعاون الأمني والعسكري ومذكرة أخرى للتفاهم بشأن ترسيم الحدود الخاصة بالمجال البحري تهدف لحماية حقوق تركيا وليبيا النابعة من القانون الدولي وذلك خلال الزيارة التي قام بها لتركيا في السابع والعشرين من نوفمبر 2019. شكلت هاتان الاتفاقيتان منعطفا تاريخياً في علاقات البلدين علي وجه الخصوص وفي صراع القوى في شرق المتوسط على وجه العموم وبهما تحولت الأزمة الليبية لمسألة حيوية بالنسبة لتركيا بشكل غير مسبوق. ومن المهم تناول حاضر وماضي سياسة أنقرة تجاه ليبيا والمقومات الدولية والمحلية للأزمة معاً لإلقاء الضوء على الخطوات التي ستخطوها تركيا.

 

وكان المحرك الأساسي المحدد للسياسة التركية تجاه ليبيا في مرحلة ما بعد نظام القذافي هو الحيلولة دون أي انقسام محتمل عبر مبادرات سلمية من شأنها أن تساهم في إنشاء المؤسسات القادرة على توطيد الاستقرار وإنهاء الصراع القائم بين الأطراف. وقد سعت تركيا جاهدة لمساعدة ليبيا على إنشاء مؤسسات الدولة الحديثة عبر الدور الذي أخذته على عاتقها من تدريب الجيش وقوات الأمن الليبية وذلك في إطار الاتفاقيات التي وقعتها تركيا مع الحكومة الانتقالية إلا أنه قد تم عرقلة تلك الجهود مع تزايد التنافس الداخلي وتحوله إلى صراع مسلح وانقسام ليبيا فعليا بعد إنتخابات 2014 المثيرة للجدل. واعتبارا من هذا التاريخ تحول مركز اهتمام تركيا لدعم الجهود الدولية الساعية لحل الأزمة الليبية سلمياً مع إشراك الفاعلين المحليين في ذلك المسار. وفي هذا السياق بذلت تركيا جهوداً ضخمة وتحديداً من أجل مشاركة المؤتمر الوطني العام في المباحثات  من أجل المسار السياسي الذي بدأ في مدينة غدامس الليبية وتُوج بتوقيع الاتفاق السياسي الليبي في مدينة الصخيرات بالمغرب عام 2015.

 

وقد أدى بذل تركيا جهودا دبلوماسية مكثفة لحل الخلاف بين حكومة الوفاق الوطني التي كان من المقرر أن تبدأ عملها في العاصمة الليبية في إطار الاتفاق السياسي الليبي وحكومة الإنقاذ الوطني التابعة للمؤتمر الوطني العام إلي حل الأزمة قبل تطورها إلى صراع . وفي الأعوام الأخيرة لم تتراجع تركيا عن موقفها في القمم التي عقدتها بعثة الدعم التابعة للأمم المتحدة بغرض حل الأزمة بين حفتر وحكومة الوفاق واستمرت في مساعيها لإيجاد حل سلمي.  ولكن ما جرى في العام الماضي في القمة المنعقدة في مدينة باليرمو الايطالية أظهر لتركيا أن نهجها المذكور لن يؤتي أكُله، فبناء على طلب حفتر الذي قرر التغيب عن الجولة الأولي لقمة باليرمو انعقدت قمة أمنية بحضور كل من : السراج رئيس حكومة الوفاق والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإيطالي كونتي ووزير الخارجية الفرنسي لودريان ورئيس الوزراء الروسي ميدفيديف وممثلي الدول الأخرى المجاورة لليبيا. وكان الأمر اللافت للانتباه في القمة المذكورة هو عدم حضورالمنافسين  المحليين لحفتر إضافة إلى استبعاد دول  قادرة على لعب دور حساس في حل الأزمة مثل تركيا وقطر. وقد فتح حفتر بنهجه ذلك الطريق أمام تحويل مؤتمر باليرمو من مبادرة سلمية تهدف لإنهاء الصراع في ليبيا إلى منصة يُستعرض فيها صراع القوى الدولية.

 

المنعطف : مؤتمر باليرمو 

 

يمكن القول بأن مؤتمر باليرمو يمثل منعطفا في سياسة تركيا تجاه ليبيا، لأن سلوك القوي الدولية الداعمة لحفتر أثناء المؤتمر أظهر بشكل جلي أنها تستهدف تجاوز الأزمة عبر استخدام القوة لا عبر الطرق السلمية. بعد تلك القمة بأربعة أشهر وكانعكاس للهدف المذكور فقد أطلقت الجبهة عملية تحت قيادة حفتر للاستيلاء على العاصمة طرابلس. وبالرغم من إظهار المجموعات التابعة لحكومة الوفاق لمقاومة باسلة لمدة تقترب من سبعة أشهر إلا أن تقدم مجموعات الفاغنر الروسية لخط الجبهة في طرابلس وغارات الطيران التابع لمصر والإمارات قد أدي لانكسار المقاومة، وقد فتح هذا الوضع الطريق لبدء عهد جديد في سياسة تركيا تجاه ليبيا والتأكيد علي أنه لا مفر من الاشتباك العسكري .

 

وتعتبر الأزمة الليبية مهمة جداً خارج سياقها الداخلي بالنسبة لصراع القوى في شرق المتوسط، حيث أن تصفية الوضع الراهن الذي يجرى السعي لتشكيله ضد تركيا في تلك المنطقة مرتبط بقدرة تركيا على التحول لفاعل حاسم في ليبيا، كما أن إقامة علاقة مشابهة مع بدائل في المنطقة بعيدا عن ليبيا يعد أمراً غير واقعي لأنه أكثر كلفة وتعقيدا. فمثلا لكي تجلس تركيا مع مصر على طاولة المفاوضات سيكون من المحتم عليها أن تأخذ في الاعتبار الأزمة السياسية القائمة مع نظام السيسي وأزمة قطر وبعض الفاعلين السياسيين كالسعودية والإمارات، ولو اختارت تركيا طريق المباحثات مع اليونان وجنوب قبرص كخيار آخر لحل الخلافات في شرق المتوسط سيكون عليها تقديم تنازلات مختلفة في مسائل عميقة كالمشكلة القبرصية وقضية بحر إيجة، ويمكن ادعاء الشئ نفسه بالنسبة لوضع العلاقات مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا وايطاليا. وبناء عليه فإن تقييم تركيا لبدائل ليبيا في الظرف الراهن سيدفع بها لتغيير جذري في سياستها الخارجية إضافة الى تقديم تنازلات متتالية .

 

علي الجانب الآخر فإن وضع ليبيا التي تعيش حربا أهلية منذ فترة طويلة يحوي بعض الأخطار بالنسبة لتركيا بسبب المقومات الخارجية والداخلية للأزمة. وإذا كان لابد من التطرق للمقومات الداخلية للأزمة فلابد أولاً من التأكيد علي أن الحرب المستمرة منذ 2014 وإلي يومنا مع فترات متقطعة من الهدوء قد جرت بين تحالفين مختلفين، الطرف الأول للحرب حكومة الوفاق والمجموعات التابعة لها وتتكون من الميليشيات القادمة من مدن الغرب الليبي وعلي رأسها مصراتة والعاصمة طرابلس والزنتان وتاجوراء. ويذكر أن أقوي خصائص هذا التحالف هو وجود خطر وجودي عليه ممثل في العملية العسكرية لحفتر علي طرابلس، وبالنظر للمعضلات الأمنية والصراعات المسلحة التي دارت بين الجماعات المذكورة قبل الرابع من أبريل فإنه من غير المستبعد تعثر سير تلك العلاقة بشكل سلمي بعد تحييد خطر حفتر، فلو سلمنا بالتنافس بين المجموعات المصراتية المقربة من تركيا والمجموعات المسيطرة علي العاصمة طرابلس منذ فترة طويلة والذي تحول إلي قتال في 2018، فلا يمكننا القول بأن مناوئي حفتر متجمعين تحت بنية تراتبية موحدة. وفي مثل هذا الوضع سيكون على تركيا بذل الكثير من الجهد لتوحيد المجموعات الموجودة تحت سقف حكومة الوفاق الوطني.

 

وعند النظر إلي المحركات الداخلية للأزمة الليبية من نافذة حفتر يمكن القول بأن الوضع لا يختلف كثيرا بالنسبة لهذا التحالف أيضا، حيث يتكون التحالف الذي يقوده حفتر من ثلاثة أركان مختلفة هم : الجماعات المسلحة القادمة بشكل عام من شرق ليبيا والمميزة بالولاء لحفتر، وجماعات فقدت الفرصة في أن يكونوا فاعلاً حاسماً في علاقات القوة غرب ليبيا، والمرتزقة الأجانب الساعين للاستفادة من غنائم الحرب الأهلية.

 

بتعبير آخر..الجبهة التي يقودها حفتر هي عبارة عن تحالف يضم تجمعاً من بعض المجموعات الحالمة بإقامة نظام سلطوي تحت قيادة حفتر وبعضها مهووس باستعادة وضعه الذي فقده في أعقاب ثورة عام 2011 وبعضها الآخر راغب في الربح الاقتصادي وحشد القدرات العسكرية. وبلا شك فتلك الجبهة أيضا يتخللها ضعف بالغ كما هو الحال في التحالف المجتمع تحت سقف حكومة الوفاق، وبالنظر لنواة كلا التحالفين نجد أن التوسع هو العامل الرابط لتلك التركيبة التي شكلها تجمع فاعلين لكل منهم تصوره المختلف عن المصلحة. وفي حالة توقف هذا التوسع عند أبواب طرابلس فإنه من المحتمل وبقوة أن ينهار الاعتقاد في أن حفتر هو الطرف الأقدر علي تحقيق النصر بل وقد تؤدي إلى وقوع تصدعات وانشقاقات في هذا التحالف.

 

ثانيا عند تقييم الأزمة الليبية من زاوية المقومات الدولية يمكن القول بأن جبهة حفتر تحظي بدعم أوسع، وقد أخذت بعض الدول كالإمارات وفرنسا وروسيا والسعودية ومصر والأردن علي عاتقها لعب أدوار حاسمة في توطيد قدرات حفتر الاقتصادية والعسكرية وفي تكوين التحالف الحالي . وعلي الجانب الآخر وبعد انضمام حلفاء جدد كاليونان لتلك الدول وذلك في أعقاب توقيع تركيا للاتفاقيات مع حكومة الوفاق فإن تركيا في المقابل تسعي لموازنة كتلة حفتر عن طريق جذب الجزائر وتونس لساحة الصراع. علاوة على ذلك تتبع تركيا سياسة لتفريق الكتلة المضادة لها والتي تضم فاعلين لهم مصالح متفرقة وذلك عبر الاتصال المباشر بموسكو لحل الأزمة.

 

وقد أظهر مسار الأزمة الليبية في الأعوام الماضية وما وقع في شرق المتوسط بمنتهى الوضوح أن استراتيجية التسكين والتهدئة لم تفلح في وضع حد للعدوانية، ويعتبر إفصاح تركيا عن قدرتها علي الردع مع الأخذ في الحسبان المتغيرات الدولية والمحلية للأزمة بشكل يتناسب مع قدراتها الخاصة أمراً لا غنى عنه بالنسبة لمصالحها القومية وأمنها.

 

فرقان بولات 

تسميات