تقدير موقف: الهبوط التاريخي في أسعار البترول

كيف تطور المسار الذي تسبب في تراجع أسعار البترول بمستوى قياسي في التاسع من مارس 2020؟ ما هي النتائج المحتملة لتراجع أسعار البترول علي منتجي البترول على المدي القريب والبعيد؟ كيف يجب علينا أن نُعقب على تراجع أسعار البترول بالنسبة للدول المستوردة للطاقة كتركيا؟

أحدث وباء كورونا الذي ظهر في مدينة وهان في ديسمبر من عام 2019 تأثيرات عميقة في كافة أرجاء العالم، وبينما تتواصل النقاشات حول سبب ظهور هذا الوباء يتسبب الوباء في شل العديد من الأنشطة الاقتصادية وعلى رأسها السياحة، وقد أدى وصول الصين ثاني أكبر إقتصاد في العالم لمرحلة فقدان عملاءها في مناطق كثيرة من العالم بسبب الفيروس إلى تراجع الطلب علي البترول فيها.

كذا فإن اتجاه الصين لرفع مخزونها من البترول لمواجهة مشاكل العرض المحتملة – نتيجة التطورات التي حدثت في الأعوام الماضية مثل العقوبات على إيران والاضطرابات الداخلية في فنزويلا والأزمة الليبية- هو أحد أسباب تراجع الطلب الذي نشهده حالياً[1]. ومع تأثير فيروس كورونا يتناقص الطلب على البترول في الصين بصورة ملموسة أكثر، ولكن الصين هي دولة واحدة من الدول التي يشهد الطلب على البترول فيها تراجع ناجم عن الركود الاقتصادي، فقد وصلت الكثير من الأنشطة الاقتصادية بما فيها السياحة إلى نقطة التوقف في الدول الأكثر تأثراً بالفيروس على مستوى العالم وعلى رأسها إيطاليا وإيران واليابان وكوريا الجنوبية.

وبالرغم من العقوبات والتطورات التي شهدتها الدول المصدرة للبترول والتي تؤثر بشكل مباشر على إنتاج البترول فإن زيادة المعروض من البترول في الأسواق يؤثر بالسلب على الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للبترول “أوبك” والتي ترتبط اقتصاداتها بالعوائد النفطية، ولهذا السبب تتخذ مجموعة الأوبك قرارات بخفض إنتاج البترول منذ عام 2016 وحتي الآن بشكل منتظم، وتقوم المنظمة المسماة بأوبك بلس التي تضم دول منظمة أوبك إلى جانب روسيا وهي إحدي أكبر الدول المنتجة للبترول في العالم منذ ثلاثة سنوات بالتحرك بشكل جماعي في إتجاه ضمان ارتفاع أسعار النفط ورفع العوئد التي يتم تحقيقها من صادراته عبر خفض عرض البترول في الأسواق.

هذا وقد أفسدت أسعار النفط ذات البنية الهشة خطط أوبك بلس بتغييراتها المفاجئة من حين لأخر، وقد قامت السعودية التي تهدف لتقليص العرض على البترول لرفع أسعاره إلى مستوي 80 دولار ووضعت خطة موازنتها على هذا الأساس بتوجيه تحالف أوبك بلس في هذا الاتجاه.

إن أسعار البترول التي دخلت 2020 بمستوى مشابه لمتوسط أسعار العام السابق هبطت لأقل من 60 دولار حتى قبل نهاية يناير-بتأثير من فيروس كورونا أيضا- بشكل من شأنها أن تعطل خطط أكبر دولة نفطية في العالم.

جدول1: تكاليف إنتاج البترول على الدول عام 2017 (بالدولار)
52.50 إنجلترا
48.80 البرازيل
41.00 كندا
36.20 الولايات المتحدة
36.10 النرويج
35.40 أنغولا
35.30 كولومبيا
31.60 نيجيريا
29.90 الصين
29.10 المكسيك
27.80 كازاخستان
23.80 ليبيا
20.40 الجزائر
17.20 روسيا
12.60 إيران
12.30 الإمارات
10.70 العراق
9.90 السعودية
8.50 الكويت

 

المصدر: وكالة الطاقة الدولية

 

وكانت مسألة إيقاف هبوط أسعار النفط التي انخفضت لما دون الخمسين دولار في الثامن والعشرين من فبراير/شباط قد شكلت البند الرئيسي في جدول أعمال إجتماع أوبك بلس الذي عُقد في مارس الجاري.

وفي إجتماع أوبك بلس الأخير الذي عقد في الخامس من مارس عام 2020 في فيينا وعدت الدول الأعضاء تحت قيادة السعودية بخفض انتاج البترول لمليون ونصف برميل يومياً حتى النصف الثاني من هذا العام، ولكن روسيا إعترضت على خفض الانتاج وتسببت في وضع غير متوقعة، فإتجهت حكومة الرياض المنزعجة من موقف الوفد الروسي إلى زيادة إنتاج البترول على عكس المخطط له وفتحت الطريق أمام توقعات بزيادة العرض المتزايد أصلا في مواجهة الطلب المتناقص في الأسواق، ونتيجة لذلك؛ في التاسع من مارس من عام 2020 انخفض سعر البرميل من خام برنت – بصورة تشبه ذلك التراجع الذي تم تسجيله أخر مرة أثناء حرب الخليج- بنسبة 31.5% في يوم واحد ليهبط لمستوي 32 دولاراً.

لقد أدى إعتراض حكومة موسكو على خفض عرض البترول في إجتماع الخامس من مارس إلى ضرب تحالف أوبك بلس في مقتل، فقد كانت عدم رغبة روسيا في خسارة حصتها السوقية التي وسعتها بسرعة خاصة بعد العقوبات الأمريكية على إيران وما صاحبها من إرتفاع في الصادرات أحد أسباب إعتراضها على خفض إنتاج النفط، وكان هاجس موسكو من رفع الولايات المتحدة -التي كسرت كل القوالب في أسواق النفط والغاز الطبيعي العالمية منذ 2010 وحتى الآن بما حققته من “ثورة البترول الصخري” – لحصتها السوقية على حساب روسيا عبر الاستفادة من اتفاقية أوبك بلس هو سبب آخر لإعتراض روسيا، كذلك بينما نستعد للإنتخابات الرئاسية التي ستقام في نوفمبر القادم ربما يشكل تأثر منتجي النفط الأمريكيين بهبوط أسعار البترول قد شكلت عقبة أمام إعادة إنتخاب الرئيس ترامب، حيث أن إنتاج البترول الصخري باستخدام وسائل غير تقليدية ما زال أكثر تكلفة مقارنةً بإنتاج البترول بإستخدام وسائل تقليدية (جدول1).

 

 

 

نتائج تراجع الأسعار على المدى القريب والبعيد

إن تراجع أسعار البترول  لهذا الحد سيؤدي إلى التقليل من الإستثمارات الموجهة لقطاع البترول في الولايات المتحدة إضافة إلى زيادة معدلات التسريح من العمل وارتفاع احتمالات تضرر الولايات التي يرتبط إقتصادها بإنتاج البترول، هذا وقد تم إيقاف التعاملات في الأسواق لتقليل الخسائر قدر الإمكان بسبب وصول العديد من منتجي البترول في الولايات المتحدة إلى عتبة الإفلاس في يوم واحد، ويمكننا الاعتقاد بأن الوفد الروسي الذي صرح بأنه وضع خططه بناء على أسعار بمستوى 40 دولار لم يضع في الحسبان أن الأسعار ستهبط لمستوي 30 دولار بينما كان يسعى لإلحاق الضرر بالإقتصاد الأميركي، بنفس الشكل؛ علينا أن نوضح أن السعودية التي وضعت خطة موازنتها بناءاً على توقع بارتفاع أسعار البترول لمستوي 80 دولار لم تكن تتوقع أن تتراجع أسعار البترول لهذا الحد بينما كانت ترفع الانتاج رداً على روسيا، من خلال الصورة التي أمامنا؛ يبدو أن الولايات المتحدة وروسيا والسعودية سيكونوا أكثر الدول تأثراً بإنخفاض الأسعار.

تسبب الهبوط المفاجئ في أسعار البترول في تراجع مفاجئ في قيمة شركات الطاقة التي تنتج الغاز الطبيعي والبترول علي مستوي عالمي في يوم واحد، وتأتي شركة بي بي الانجليزية وهي واحدة من أقدم شركات النفط في العالم وشركة شيل الهولندية على رأس الشركات المتضررة من انخفاض القيمة المذكور سلفاً بخسائر 25% و20% على التوالي، كانت وكالة الطاقة الدولية -التي تم تأسيسها عقب أزمة البترول عام 1973 بغرض زيادة التعاون بين الدول- قد أعلنت في التاسع من مارس ولأول مرة منذ الازمة الاقتصادية العالمية في 2009 أنها تنتظر انخفاض الطلب على البترول هذا العام [2] .

ربما يتسبب استقرار الأسعار عند مستوى 30 دولار لفترة طويلة في زيادة التوتر داخل منظمة أوبك بلس، فقد سبق وظهرت الخلافات داخل أوبك واضحةً للعيان مع إنفصال قطر عن المنظمة في 2019، فبينما يتم إعفاء دول تعيش مشاكل في الانتاج حاليا مثل ليبيا وفنزويلا وإيران من خفض الإنتاج يتعرض منتجي النفط الآخرين داخل أوبك بلس لخطر خسارة حصصهم السوقية العالمية، وبينما يُنظر بكل تأكيد لحتمية مواجهة الدول التي ترتبط دخولها بعائدات النفط بشكل كبير لأزمات إقتصادية على المدي البعيد والقريب حسب مدة استقرار أسعار البترول عند مستوى 30 دولار ينتظر أن تتجه هذه الدول لخفض النفقات في قطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية من أجل تخطي الأزمات المذكورة.

تأثيرات هبوط أسعار النفط على تركيا

تعتمد تركيا على العالم الخارجي بنسبة كبيرة نظرا لاستيرادها ما يقرب من 75% من استهلاكها من الطاقة، إن هذا الهبوط في أسعار البترول سيفيد لحظيا من حيث التكلفة في عمليات شراء الغاز الطبيعي والبترول التي ستعقد عبر الأسواق النقدية، وربما أيضاً تحدث تخفيضات في أسعار مشتقات البترول التي تهم المستهلك الأخير كالبنزين والغاز البترولي المسيل وغاز المنازل الطبيعي واستهلاك الكهرباء، وفي حالة استمرار الهبوط في الأسعار أقل من متوسط الأسعار الذي استمر طوال 2019(64 دولار) فإنه من المنتظر أن تنخفض حصة الطاقة من النفقات في الحساب الجاري لعام 2020، من الواضح أيضا ان فواتير الطاقة الخاصة بالدول المستوردة للطاقة كتركيا ستقل وذلك بالنظر لاستمرار انخفاض أسعار الغاز الطبيعي مع أسعار البترول.

الأكثر من ذلك؛ سيكون موقف تركيا أقوى خلال عملية تجديد عقود الغاز الطبيعي طويلة الأمد التي ستنتهي بين عامي 2021 و2022 إذا تواصل الانخفاض أسعار البترول طوال هذا العام[3]، لكن لابد أن لا ننسى أن تجارة الغاز والبترول تتم باستخدام الدولار وبالتالي لا يمكن التفكير فيها بعيداً عن معادلة العملة بين الدولار والليرة، وحتى لو أدت أسعار البترول المتراجعة إلى ظهور أوضاع مربحة على المدى القريب والمتوسط بالنسبة للدول التي تستهلك البترول والغاز الطبيعي بشكل كبير وتستورد جزءاً كبيراً مما تستهلكه مثل تركيا فإنه من الجدير بالملاحظة أن رفع استهلاك مصادر الطاقة المحلية والمتجددة على المدى البعيد سيضمن لهذه الدول تأثراً أقل بأسعار البترول المتغيرة.

[1] “Oil Gives up Early Rally as Focus Returns to Rising Oil Stocks”, Bloomberg Market, 8 October 2019

بشرى زينب أوزدمير

أتمت بشرى زينب أوزدمير دراستها الجامعية في قسم العلاقات الدولية والإتحاد الأوروبي في كلية الادارة بجامعة الاقتصاد بإزمير، ثم حصلت على درجة الماجستير من معهد العلوم الإجتماعية في نفس الجامعة بدراسة تحت عنوان “الإتحاد الأوروبي للطاقة : خطوة للأمام أم إعادة تنظيم؟ “، وتواصل أوزدمير دراسة الدكتوراة في برنامج العلاقات الدولية بمعهد العلوم الإجتماعية في جامعة يلدرم بايزيد بأنقرة، وتعمل كباحث مساعد في مركز سيتا للأبحاث منذ عام 2017 وحتى الآن.

[2] “Global Oil Demand to Decline in 2020 as Coronavirus Weighs Heavily On Markets”, IEA, 9 Mart 2020, www.iea.org/news”

[3] عقود الغاز الطبيعي طويلة الأمد التي ستنتهي بين عامي 2021 و2022 كالتالي : روسيا (أنبوب الغاز)، أذربيجان (أنبوب الغاز)،نيجيريا (غاز مسيل)، الجزائر (غاز مسيل)

تسميات