التطبيع في السياسة الخارجية التركية وسوريا

إن لتوقيت التطبيع أهمية حساسة إلى حد بعيد؛ حيث تجري الدول تقييمات متعددة الأبعاد حول الجوانب الإيجابية والسلبية لهذه المسار. فالمعايير والمقابل الذي يتم التوافق من أجله له دور حاسم في تحديد نجاح المسار التطبيعي. لقد أظهرت تركيا بتحركاتها التطبيعية الأخيرة أنها لاعب عقلاني مؤثر ومرن.

يروج حزب الشعب الجمهوري منذ فترة طويلة لفكرة الحوار مع النظام السوري، حيث يستشهد الحزب بسعي تركيا في الفترة الأخيرة لتطبيع علاقاتها المتوترة مع دول مثل مصر والإمارات، معتقدين أنهم محقين في ادعاءاتهم تلك. مما لا شك فيه أن الكيفية التي سيتم بها التوصل إلى حل للحرب الاهلية السورية تمس على نحو مباشر مستقبل تركيا ببعدي اللاجئين وتنظيم واي بي جي الإرهابي.

لنلق نظرة أولاً على منطق التطبيع في السياسة الخارجية التركية. كما ذكرت في مقالاتي السابقة فإن توجه التطبيع بين اللاعبين في الشرق الأوسط وسياسة تركيا لفتح صفحة جديدة يرتبطان ارتباطا وثيقا بالتغير الجيوسياسي الحادث على المستويين الإقليمي والعالمي. إذ لم يعد من الممكن أن تستمر سياية المعسكرات في منطفتنا فيما يتصاعد التنافس بين القوى الكبرى. فلكل دولة بعض المصالح التي تتناقض مع حلفاءها وتتماشى مع خصومها.

لماذا ومتى وكيف؟

لا يحدث التطبيع على أساس عاطفي مثل الدعوة إلى التصالح مع الجميع، كما أنه لا يتحقق نزولا على رغبة طرف واحد، فمن المعروف أن الدول تقوم بمراجعات لسياساتها وفقا للمعادلات الجيوسياسية الجديدة. حيث تقوم الدول بحساب مصالحها وتغيير خياراتها إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك. ويستند سعي القوى الإقليمية بما فيها تركيا للتطبيع على هذه الحقيقة.

إن لتوقيت التطبيع أهمية حساسة إلى حد بعيد؛ حيث تجري الدول تقييمات متعددة الأبعاد حول الجوانب الإيجابية والسلبية لهذه المسار. فالمعايير والمقابل الذي يتم التوافق من أجله له دور حاسم في تحديد نجاح المسار التطبيعي. لقد أظهرت تركيا بتحركاتها التطبيعية الأخيرة أنها لاعب عقلاني مؤثر ومرن.

تمضي تركيا في مسار تطبيع العلاقات بغية الحفاظ على مكتسبات العمليات التي جرى تنفيذها في ليبيا وسوريا وشرق المتوسط. وتتواصل عملية التطبيع بسبب الظروف الإقليمية الجديدة ونظراً لرغبة اللاعبين الآخرين.

ضرورة تحقيق هدفين

لا تستهدف المقاربة التركية الحالية إزاء سوريا هدم النظام، حيث تستهدف أمران أساسيان:

  1. أن يتمكن السوريين من العودة إلى بلادهم بصورة مشرفة.
  2. إعاقة تنظيمي “بي كا كا” و”واي بي جي” الإرهابيين.

وما إقامة تركيا لمناطق آمنة في الشمال السوري وتواجدها في إدلب إلا من أجل هذين الهدفين. وقد تم منع قدوم 4-5 ملايين لاجئ سوري إلى تركيا على هذا النحو. من الواضح أن تحقيق هذه الأهداف غير ممكن في حالة عدم دمج المعارضة السورية في حكومة سورية جديدة شاملة. فعلى سيبل المثال؛ في الأيام الأخيرة نشرت منظمة العفو الدولية تقريرا يفيد تعرض العائدين إلى سوريا للتعذيب على يد المخابرات السورية. من غير الممكن أن يعود السوريون طواعية إلى مكان سيتعرضون فيه للتعذيب والضغط.

من المعروف أن نظام الأسد يرغب في الجلوس إلى الطاولة مع أنقرة. حتى ان الرئيس الروسي بوتين يعرض ذلك على الرئيس أردوغان من حين إلى حين، ولكن الأسد ذاته يقف حجر عثرة أمام مباحثات جنيف ولا يرغب على الإطلاق في عملية إنتقالية تشمل المعارضة.

ويبدو أن هناك مساعي للضغط على تركيا قبل المقابلة التي سيعقدها الرئيس أردوغان مع بوتين في نهاية هذا الشهر من خلال القصف الجاري في إدلب. إن الحوار أو عدم الحوار مع نظام دمشق ليس مجالا للأيديولوجيا أو العواطف بل هو مسألة توقيت ومعادلات إقليمية وحسابات للمصالح.

متى يمكن الحوار مع دمشق؟

بين الفينة والأخرى تنقل وسائل الإعلام اخبارا حول لقاءات عقدت بين وحدات الاستخبارات التركية والسورية. ولكن لا بد من قطع مسافة كافية في المباحثات الاستخبارية من أجل بدء دبلوماسية علنية. يجب أن يكون النظام السوري راضيا ومستعدا لإعادة الشعب السوري إلى بلاده. ولإظهار ذلك ينبغي أن يعطي أهمية للمسارات التي تشارك فيها المعارضة. يجب أن يتوقف النظام عن دفع الملايين في إدلب نحو الحدود التركية.

يمكن الادعاء بأن دمشق ستقوم بتصفية واي بي جي إذا توافقت مع أنقرة. ولكن حتى إذا سلمنا بأن هذا الخيار قابل للتحقق دون انسحاب الولايات المتحدة من سوريا بشكل كامل، سيبقى السؤال “هل يمكن الثقة في حكومة دمشق في قضية المعارضين واللاجئين؟” دون إجابة.

علاوة على ذلك فانسحاب الولايات المتحدة من سوريا على المدى القريب بصورة مشابهة لانسحابها من أفغانستان هو احتمال ضعيف. إذا تم تنفيذ مقترح حزب الشعب الجمهوري “العبقري” دون توفر الظروف المناسبة ستتحول إقامة اللاجئين في تركيا إلى وضع دائم مع قدوم المزيد من اللاجئين.

تسميات